إن فكرة إنجاز هذا الكتاب الخاص بالـمدرس(ة) لم تكن وليدة اليوم أو جاءت بسبب مناسبة عابرة. فقد اشتغلنا على فكرة المهنية مع طلبتنا مدة من الزمن، وألقينا بصددها محاضرات وعروض هنا وهناك. كما ساهمنا في وضع الأطر المرجعية التي تهم جانبا من جوانب مهنة المدرس فيما سمحت به ظروف الاشتغال وسقف المطلوب إنجازه. ونشرنا في مواقع ومنابر مختلفة م...
قراءة الكل
إن فكرة إنجاز هذا الكتاب الخاص بالـمدرس(ة) لم تكن وليدة اليوم أو جاءت بسبب مناسبة عابرة. فقد اشتغلنا على فكرة المهنية مع طلبتنا مدة من الزمن، وألقينا بصددها محاضرات وعروض هنا وهناك. كما ساهمنا في وضع الأطر المرجعية التي تهم جانبا من جوانب مهنة المدرس فيما سمحت به ظروف الاشتغال وسقف المطلوب إنجازه. ونشرنا في مواقع ومنابر مختلفة مقالات تناولت بعض جوانب الموضوع، ومؤلفات أثارت كثيرا من القضايا التي تهم مهنية المدرس(ة) إن بشكل مباشر أو غير مباشر. وشاركنا في لقاءات حول الموضوع نفسه في مناسبات عديدة...؛ لذلك نعتبر هذا العمل تركيبا أوليا لـمادة غزيرة تراكمت لدينا في الموضوع، وفرصة لطرح مفهوم المهنية للنقاش العام. لهذا الكتاب أبعاد أساسية منها :- البعد التكويني: يهم هذا البعد رسم معالم الرهانات التي ينبغي أن يتعمق فيها التكوين (التكوين الأساسي والتكوين المستمر والتكوين الذاتي)؛ بدء بولوج مهنة التدريس وصولا إلى ممارستها الفعلية.من المؤكد أن البعد التكويني أساسي وملحاح لأن الاصلاحات المتتالية التي يعرفها النظام التعليمي على مستوى العالم أو المغرب، كما يرى جون بيير أستولفي، أدخلت تحولات عميقة في تصور التعلمات المدرسية، ورافقتها تبدلات في المعجم المستعمل لوصف التعليم والتعلم، أو لنقل وصف ما يحدث في الميدان؛ في القسم وفي جميع أمكنة التعلم حيث يوجد المدرس والمتعلم. وتدور هذة التحولات المعجمية حول ما يلي :- الانتقال من المدرس المؤدب إلى المدرس المكون؛- الانتقال من المدرس المعلم إلى الوسيط؛- الانتقال من التلميذ إلى المتعلم؛- الانتقال من المقرر إلى كيركيلوم: المنهاج الدراسي؛- الانتقال من الدرس إلى العدة؛- الانتقال من تلقين الفكرة إلى بناء المفهوم؛- الانتقال من التدريس المعتمد على الذاكرة إلى المعرفي: حل المشكلات؛- الانتقال من تدريس المعرفة كمعرفة إلى بناء الكفاية؛- الانتقال من المراقبة إلى التقويم.إن المتأمل لهذا المعجم «الجديد» مليا ليدرك – ولو حدسيا- أن مهنة التدريس دخلت طورا جديدا أقل ما يصطلح عليه هو عصر المهنية أو إرادة تمهين وظيفة التدريس.صحيح أن مفهوم المهنية في التعليم يثير كثيرا من الغموض وكثيرا من الالتباس من لغة إلى لغة ويمس التصورات القبلية: التمثلات. ففيما يخصنا نحن لم نحدث قطيعة فعلية مع شيخ الزاوية: شيخ يمتلك المعرفة والحقيقة وربما البركة- ولهذا اقترن المدرس في المغرب بالفقيه، بحيث يجب تقبيل يده لعلمه وبركته احتراما- ومريد يتلقى ويتحلق حوله ولا حق له إلا بالسؤال إن سمح له الشيخ بذلك. فهذا النمط ما يزال يسكن مؤسساتنا التعليمية والتربوية والتنشئوية، وفي أبعاد أخرى يسكن السياسة والاقتصاد...إلخ، وهو النمط المعبر عنه بيداغوجيا بالنقل: ثقافة الفم والأذن(ثقافة تناقل الأخبار والقصص والحديث بالعنعنة دون تدوين: قال لي شيخي وحدثني زعيمي وأستاذي...). هناك من يحدث بلا نهاية حسب هواه، وهناك من يسمع بلانهاية حسب هوى المحدث. حديث المحدث هو أصدق الحديث، وحديث المستمع هو نسخة مشوهة عن الحديث الصادق؛ لذلك يجتهد المريد- المستمع-المتلقي-التلميذ-الطالب-الإبن-المشايع-التابع...إلخ، في حفظ الحديث الصادق- حديث الأولين ، حديث الشيخ، حديث الأستاذ ليرده بكل أمانة (كلحظة الامتحان القائمة على رد القول، رد البضاعة) أو يتلوه بخشوع أمام الغير من غير زيادة أو نقصان ادعاء ليبرز صفاء ذاكرته وصدق تبعيته وامتثاليته المطلقة للشيخ أو الزعيم أو الاستاذ...لثقافة النقل (بيداغوجيا النقل والشحن والملء...) وجه آخر- لم نحدث قطيعة معه كذلك- يجد تعبيراته فيما قاله الشاعر المصري: قم للمعلم...كاد المعلم أن يكون رسولا. ماذا نفهم اليوم ونحن نتحدث عن المهنية من هذا القول؟ علينا أن ندرك بأن مهنية المدرس تكلف اليوم ثمنا باهضا وتتطلب انتقاء دقيقا لولوج المهنة وتقويمات وتكوينات كثيرة؛ ولذلك لا مجال للحديث عن مهنة التدريس بمعجم أخلاقي-لاهوتي كقولهم أن مهنة التدريس هي مهنة الخييرين وفعل الخير...إلخ.لا ينتظر من المدرسين اليوم فعل الخير أو الإحسان لقيامهم بتعليم غيرهم أو بلغة أدق لقيامهم بدورهم وواجبهم القائم على تعاقدات مؤسساتية: واجبات وحقوق. لا يجب أن ينظر إلى مهنتهم من هذا المنظور الأخلاقي-اللاهوتي لأن التعليم أضحى مؤسساتيا وارتبط بدولة المؤسسات وبرهاناتها الثقافية والسياسية والاقتصادية والتنموية... فكل تحول يصيب الاقتصاد مثلا يرمي بظلاله على التعليم، وبالتالي على ممارسة مهنة التعليم. فإذا كان الحديث يدور في الاقتصاد اليوم حول المردودية والنجاعة فإن المدرسة دخلت هذا العهد؛ وبالتالي ولج المدرسون عهد الفعالية البيداغوجية. ومن هذا المنظور وجب الانطلاق من تقييم الفعالية البيداغوجية للمدرس وليس من معجم أخلاقي-لاهوتي، أو الانطلاق من تصورات أخرى تستحضر الكلفة وهدر المال العام وانعدام الأهلية (كفايات المهنة) المهنية...إلخ.