العصبية، من حيث هي جهاز دفاعي، قوة ردع للقبيلة تصدّ بها احتمالات العدوان من القبائل أو العصائب الأخرى، ولكنها تنطوي أيضاً على وجه داخلي آخر يزيد من لحمة التماسك بين أفرادها؛ ولعل أبرز مظاهرها ما يسميه ابن خلدون بالتوحش، أي الاعتزال في البيد والقفار، حيث تكتفي الجماعة البدوية بالقوت الزهيد الذي يقيم اودها. وهكذا فالتوحش بطبيعته ق...
قراءة الكل
العصبية، من حيث هي جهاز دفاعي، قوة ردع للقبيلة تصدّ بها احتمالات العدوان من القبائل أو العصائب الأخرى، ولكنها تنطوي أيضاً على وجه داخلي آخر يزيد من لحمة التماسك بين أفرادها؛ ولعل أبرز مظاهرها ما يسميه ابن خلدون بالتوحش، أي الاعتزال في البيد والقفار، حيث تكتفي الجماعة البدوية بالقوت الزهيد الذي يقيم اودها. وهكذا فالتوحش بطبيعته قوة تماسك تشد العصبية من الداخل بما يضمن عدم اعتداء بعضهم على بعض، وقوة ردع تقاوم به العصبية –كجماعة- أعداءها الخارجين.وإذا أمكن للقرابة والدين والقيم الأخلاقية الأخرى أن تحدّ من خطورة التوحش داخل العصبة وفي إطارها، فإنه لا رادّ له ولا عاصم منه خارج إطار العصبة والقرابة، ولذلك ما إن تحتك العصبة أو الجماعة المتوحشة بجماعة أخرى غيرها حتى تصطدم بها اصطداماً مروّعاً لا بد أن يفضي إلى القضاء على إحداهما.كيف يمكن لعصبية، التي هي جزء من الطبيعة، أن تكمل أو تبلور الحكمة التاريخية التي هي جزء من الثقافة؟ لقد استطاع ابن خلدون أن يستعمل جهازه الإصلاحي البسيط الموروث من حقول متنوعة لتجنيده في اكتشافه المذهل عن علم العمران. وبهذه الأدوات البسيطة يبدو ابن خلدون معاصراً لنا أكثر بكثير مما نبدو معاصرين لأنفسنا.