هذه مجموعة من الفصول كتبناها على أزمنة متباعدة، شجعنا على أن ندرجها في كتاب واحد ما يجمع بينها، على تباعدها الظاهر، من انتمائها إلى مشغل فكري واحد ومنهج في التناول مشترك، إنها جميعاً محاولات لقراءة نصوص من حقب مختلفة وأنواع أدبية متباينة.أم الهم الفكري فهو إيماننا بأن النص الأدبي أو الفكري مهما كان كاتبه ومهما كان العصر الذي ينت...
قراءة الكل
هذه مجموعة من الفصول كتبناها على أزمنة متباعدة، شجعنا على أن ندرجها في كتاب واحد ما يجمع بينها، على تباعدها الظاهر، من انتمائها إلى مشغل فكري واحد ومنهج في التناول مشترك، إنها جميعاً محاولات لقراءة نصوص من حقب مختلفة وأنواع أدبية متباينة.أم الهم الفكري فهو إيماننا بأن النص الأدبي أو الفكري مهما كان كاتبه ومهما كان العصر الذي ينتمي إليه لا يحييه ولا يذكي المعنى فيه إلا فعل القراءة. ولا يخفى ما لهذا المفهوم من أهمية لا سيما مع النزعات والمدارس التي حاولت أن تبنيه على دعامات صلبة وتوكل أمره إلى شبكات قراءة متطورة.ولقد حملتنا المشاغل البلاغية في الجامعة التي تنتمي وفي اختصاصنا الضيق الذي أنجزنا فيه أهم أعمالنا بصفة تكاد تكون طبيعية إلى ما يسمى اليوم بتحليل الخطاب وما نشره هذا الاختصاص بين الناس من مفاهيم وآليات سبر وتعمق مكنت الباحثين والقراء من الوصول إلى طبقات المعاني المخزونة في النصوص الأدبية أو الفكرية المهمة.ولقد حاولنا في كل هذا الذي أنجزنا الاهتداء بمكتسبات هذا المنهج فأجريناه على النصوص التي يشتمل عليها هذا الكتاب.وقد جربنا هذه المكتسبات على أربعة نصوص تنتمي إلى زمر من المخاطبات مختلفة. فكان نصنا الأول دراسة في خطاب السجال والمفاضلة، وقد مكننا هذا الاعتبار من إعادة بناء نص الجاحظ المشهور في مقدمة كتاب الحيوان، ووقفنا في ما نعتقد على الخيط الرابط بين مكوناته التي تبدو لأول وهلة مبعثرة منقطعة لا يجمع بينها إلا اندراجها ضمن الكتاب.وقد سمح اعتبار النص سجالاً من أن نقف فيه على مناهج الأدلة وصنوف الاحتجاج في هذه الفترة المبكرة. وعنه تفرع النص الثاني، وهو من الكتاب نفسه، واعتبرناه نصاً مندرجاً ضمن خطاب الغيرية والسعي إلى اكتشاف الآخر. وهكذا وصلنا إلى شيء نعتقد أنه لا يخلو من جدة، وهو اندراج خطابات يمكن أن تستقل بالدرس في خطاب أوسع وأشمل تحل منه محل المكون.ومن خطاب السجال والغيرية انتقلنا إلى خطاب العقيدة أو إن شئنا قلنا الخطاب الذي ينتمي إلى دائرة تحاول أن تركز العقيدة والإيمان على معطيات "استدلالية علمية". فاخترنا خطاب الإعجاز موضوعاً لتحليلنا. ومن خطاب الإعجاز في مؤلفاته الشهيرة اخترنا دور المتلقي في بناء الإعجاز على الحجة والدليل، وانتهينا إلى أن الدارسين منذ وقت مبكر، انتبهوا إلى أن صيرورة الخطاب الذي بنوه وتأثيره في المخاطبين، وإقناعه لهم لا تتم إلا بمتلق تتوفر فيه جملة من الصفات وقفنا عليها بشيء من التفصيل. وهكذا، ومن غير أن نقصد إلى ذلك، كان حديثنا عن المتلقي في هذا النوع من المخاطبات منسجماً مع ما وصلت إليه دراسات التلقي منذ عشرين عاماً أو ما يزيد.أما البحث الرابع فهو دائر على ما يسمى بالخطاب النسوي أو الأدب النسوي، واخترنا نموذجاً لدراستنا رواية الجزائرية أحلام مستغانمي "فوضى الحواس" مجالاً للدرس والتجريب، يحدونا في ذلك موضوع محدد دقيق من المواضيع التي تشترك في درسها اختصاصات كثيرة كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلوم القانون.. وهو موضوع العنف، ومنه العنف الذي يتشربه الإنسان من محيطه ووضعه وسياقه التاريخي ولغته والأخيلة التي تعمر تلك اللغة، فيتحول إلى عنف مستبطن مقبول يكاد لا يعيه أحد إلا الذي يفكك تلك النصوص ويبحث عن المضمر المندس فيها الذي يوجهها من غير أن ينتبه إليه أحد.