منذ قرابة نصف قرن شرع العديد من الباحثين في المشرق الإسلامي وكذا في دوائر الإستشراق الغربية في رصد بنية الفكر العربي الحديث ومراحل تطوره – غير أن معظم هذه الكتابات لم تخلو من عدم الدقة تارة والرؤى الخاصة التي يعيبها التعصب تارة ثانية، والسطحية في التناول تارة ثالثة فنجد بعض هذه الكتابات ينزع إلى اتهام قادة التنوير في الفكر العرب...
قراءة الكل
منذ قرابة نصف قرن شرع العديد من الباحثين في المشرق الإسلامي وكذا في دوائر الإستشراق الغربية في رصد بنية الفكر العربي الحديث ومراحل تطوره – غير أن معظم هذه الكتابات لم تخلو من عدم الدقة تارة والرؤى الخاصة التي يعيبها التعصب تارة ثانية، والسطحية في التناول تارة ثالثة فنجد بعض هذه الكتابات ينزع إلى اتهام قادة التنوير في الفكر العربي بالتبعية للغرب، وذهب البعض الآخر إلى وضع جُل أعمال الاستنارة في دائرة الكفر والمروق وراق لبعض الكتاب وصف نتاج الفكر العربي بالهشاشة والسطحية، أما الدوائر الغربية فحاولت رد كل ايجابيات الفكر العربي الحديث إلى المنابع الفلسفية الغربية التي استقى منها بعض أعلام الفكر العربي فلسفتهم، فمنهم من وصف رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وبطرس البستاني وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين أنهم مجرد أبواق للفلسفات الغربية في حين ذهبت العديد من الدوريات الغربية إلى الربط بين جمود الأزهريين في القرن التاسع عشر وبين الأصولية الإسلامية، وذهبوا إلى أن علة تخلف الفكر العربي ترجع إلى تمسك الرأي العام في البلدان الإسلامية بالأصول الشرعية الجامدة.ونسي وتناسى كل هؤلاء أن الفكر العربي الحديث له سماته الخاصة وبنيته المتميزة وأفكاره التي نبتت من الواقع المعيش وأن مواطن التشابه بين حركة التنوير في الفكر العربي والفكر الغربي ترد إلى المسحة الفلسفية التي اصطبغت بها كتابات المفكرين في الشرق والغرب.أما الزعم القائل بأن أعلام الفكر العربي قد تنازلوا عن شخصياتهم فيعد إدعاء يفتقر إلى الدليل فمعظم كتابات المستنيرين العرب جاءت تؤكد على الولاء والانتماء للوطنية والقومية.ولا يعني ذلك عدم وجود بعض الأقلام المتشيعة للغرب من أمثال شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى وإسماعيل أدهم وحسين فوزي (السندباد) وبعض كتابات إسماعيل مظهر المبكرة، غير أن مثل هذه الآراء لا يمكن اعتبارها بمثابة السمة السائدة أو التيار الأغلب بل يمكن وصفها بأنها مجرد أنساق جامحة أو متمردة على الواقع وسرعان ما يتبين لها أن التقليد في شتى صوره لا يمكن أن يفضي إلى تقدم أو نهضة حقيقية وأقرب الأمثلة إلى ذلك د/زكي نجيب محمود الذي بدأ كتاباته متشيعاً للوضعية المنطقية وانتهى إلى إيمان عميق بأصالة التراث العربي الإسلامي وشخصياته.أضف إلى ذلك وصف خطاب الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وعبد العزيز جاويش ومحمد فريد وجدي وعبد المتعال الصعيدي بأنه خطاب ديني إصلاحي وأغفل أصحاب هذا الرأي أن المفكرين العرب لم يفصلوا في كتاباتهم بين الهوية العربية والثقافة الإسلامية ولا سيما في حديثهم عن دائرة الانتماء والربط بين الأصالة والمعاصرة وحرية الفكر والوعي.ولا ريب بأن هذا الكتاب الذي بين أيدينا قد تناول العديد من هذه القضايا برؤية موضوعية أحتكم فيها الكاتب إلى المصادر الرئيسية التي خطها أعلام الفكر العربي بأنفسهم وكيف لا وهو باحث متخصص قد عكف على دراسة بنية الفكر العربي الحديث والمعاصر قرابة ربع قرن فقد اجتهد في هذا الكتاب في إثبات أنه ليست هناك قطيعة معرفية بين ابن رشد باعتباره قائد حركة التنوير في فلسفة العصر الوسيط (في الشرق الإسلامي والغرب المسيحي) من جهة ورائد التوفيق بين الثوابت العقدية والمتغيرات الحضارية من جهة أخرى، وبين أعلام الفكر العربي الحديث وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي.أما في الفصل الثاني من هذه الدراسة فقد حاول المؤلف الكشف عن أهم تيارات الفكر العربي الحديث وسماته وذلك من خلال قراءة متأنية لبنية الثقافة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، أما في الفصل الثالث فتوقف عند قضية الولاء والانتماء باعتبارها المدخل الرئيسي لقضايا الوعي والهوية في الفكر العربي الحديث، وفي الفصل الرابع تحدث عن قضية المنهج عن الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي يعد بحق رائد التفكير الفلسفي في الفكر العربي الحديث، وفي الفصل الخامس تناول مشروع الصادق النيهوم الذي يعبر عن أصالة الفكر العربي المعاصر في تناول قضايا التنوير والإصلاح برؤية نقدية مستمدة من إيمانه بقدرة ثقافته العربية على النهوض ثانية وحمل راية التقدم من جديد، أما الفصل السادس فقد خصه المؤلف بالحديث عن رائد التفكير النقدي في الثقافة العربية المعاصرة الدكتور/زكي نجيب محمود فكشف النقاب عن العديد من أفكاره النهضوية التي تعبر كذلك عن خصوصية الفكر العربي وغيره.وحسبي أن أؤكد على أن الدكتور عزمي زكريا ليس من الباحثين الذين ينقلون الآراء بغير تمحيص بل هو على العكس من ذلك تماما وسوف يتأكد القارئ من صدق قلمه وعمق نقداته وأصالة فكره، كما أؤكد أن هذه الدراسات التي جمعها في كتابه جديرة بالبحث والتأمل وذلك لإعادة النظر في العديد من الأحكام التي طالما أطلقها غير المتخصصين على الفكر العربي وأعلامه وكتاباته.وإذا كان الفكر العربي المعاصر قد عجز عن حل مشكلاته على الصعيدين القومي والعالمي فإن ذلك يرجع في المقام الأول إلى المتعالمين أصحاب المشروعات الواهية والخطابات المأجورة، أعني أن ابتعاد المفكرين المعاصرين عن مشخصاتهم وجحودهم لها والتعلق بأذيال الغرب والعزوف عن الرؤى النقدية في فحص الفكر الوافد هو العلة الحقيقية وراء أفول نجم الفكر العربي المعاصر، وقد ساهم انهيار الطبقة الوسطى في مصر والشام والعراق في غيبة الاتجاه المحافظ المستنير الذي قاد حركة النهضة والتنوير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.