قدر النقد الأدبي، أو النظرية النقدية، أن يكون معطى نصياً، بمعنى أن الناتج الفكري يرتبط بالنص الإبداعي، وبما أن الفكر متجاوز دائماً بطبعه عن طريق السؤال، فإنه ينحت لنفسه سبلاً مختلفة للبحث عن نفسه داخل النصوص، لأن معالم الاشتغال عنده تختزل في جدلية "النص/الفكر"، فالفكر النقدي لحظة الاشتغال على النص يستحضره، ليس كلعبة لإقامة علاقة...
قراءة الكل
قدر النقد الأدبي، أو النظرية النقدية، أن يكون معطى نصياً، بمعنى أن الناتج الفكري يرتبط بالنص الإبداعي، وبما أن الفكر متجاوز دائماً بطبعه عن طريق السؤال، فإنه ينحت لنفسه سبلاً مختلفة للبحث عن نفسه داخل النصوص، لأن معالم الاشتغال عنده تختزل في جدلية "النص/الفكر"، فالفكر النقدي لحظة الاشتغال على النص يستحضره، ليس كلعبة لإقامة علاقة شكلية معه، لكن كأفق للتأسيس المنهجي والمعرفي، ومن ثم يمكن القول: إن النظريات النقدية تتطور على أفق النصوص الإبداعية وليس العكس، من أجل سد الفراغات الفكرية بين النقد والنص.تطرح الدراسة الراهنة أسئلة محورية ورئيسة: أين توجد النظرية؟ في النص؟ أم في الفكر؟ أم فيهما معاً؟ هل النص مبهم لأن الفكر حوله جعل السؤال هامشياً؟ أم لأن السؤال غير قادر على التموضع داخل فكر تقليدي جامد يزعجه دائماً التحرر من قيوده التي فرضها على نفسه وما زال يثق بها لأنها تمثل طوق النجاة؟ أخيراً، لماذا يهرب دائماً سؤال الثقافة داخل النص الأدبي؟، ومن المسؤول عن هروب هذا السؤال؟ هل هو القارئ؟، أم النظريات النقدية التي تتخذ مناهج مختلفة في قراءة النصوص لم تلتفت إلى هذا السؤال باستثناء النقد الثقافي؟!لا يهرب سؤال الثقافة خوفاً على حريته، لأنه مستبد بطبعه، يهرب لأنه سيكشف عن عيوب ثقافته، وأخلاقية داخل النص تزعج الوعي العربي بشكل عام عندما يجد نفسه في مواجهة مع عيوبه وانجراحاته، والقارئ يلعب دوراً مهماً في هذا الهروب، إما لأنه يقرأ النص في ضوء مناهج لم تلتفت إلى هذا السؤال، وإما أنه يخشى مواجهة المجتمع، لأنه -أي سؤال الثقافة- يقرع الأبواب المغلقة، ولا ينتظر جواباً، الأمر الذي يخشاه معظم القراء في الثقافة العربية اتقاءً لشرها.إن موقع السؤال محوري في هذا السياق، لأنه يؤسس لأفق معرفق مغاير، ويرسم مساراً جديداً في البحث عن آليات التداخل بين الفكر والنص. إن فراغات المعرفة تبقى ملتبسة داخل فكر يتبنى نزعات التماثل، ويتعامل مع السؤال -الذي يملك خاصية ملء هذه الفراغات- على أنه شر أخلاقي لأنه يزعج منظومة النسق الفكري، فالسؤال يتجاوز مع النص كل التواءات الثقافة، لأن ثقافة السؤال تسعى دوماً إلى تفكيك بناءاتها الإيديولوجية الصلبة.إن مساءلة الموجود، غالباً ما تؤسس للمغاير والمختلف انطلاقاً من مفاهيم تأخذ مشروعيتها من النظريات التي تجد جذورها في منظومة الاختلاف، بمعنى آخر، تسعى المساءلة إلى إعطاء الموجود معناه الموضوعي، وليس معناه الذاتي أو الزخرفي المخادع، في هذا السياق يمكن طرح تجربة جديدة تشتغل وفق منطق الاختلاف والتجاوز، يعمد الناقد فيها عند تحليل النصوص، إلى التحرر قدر الإمكان من هيمنة الأنساق الثقافية المتداولة والمألوفة، والوعي بالقيود المعرفية للمفاهيم التقلدية والتي ترتبط بالسياقات الفكرية القائمة على التنميط والنمذجة، بما يجعلها عاجزة عن استيعاب الآفاق الفكرية الجديدة التي تطور من الأفكار، ولا تساعد الفكر على مراجعة مفاهيمه، الأمر الذي يجعلها تعمل كعائق معرفي يحول دون استشراف العقل لـ"ألما بعد" وتجعله يلتصق دائماً بالمألوف والمعهود.تنطلق الدراسة -إذا- من سؤال الثقافة، وهو سؤال لا يكتفي بالموجود والحكم عليه، وإنما يمتد إلى استقصاء المغيب، والمستبعد، يتعامل مع النص بوصفه مادة للبحث في المعرفة الأدبية، ومن ثم يرمي غلى الكشف عن آليات الحجب، والتحوير، والخداع التي تمارسها الإيديولوجيات الثورية من خلال خطابها الشمولي، حيث تفرض هالة من القداسة على هذه الإيديولوجيات، وتخرجها من دائرة السؤال إلى دائرة التسليم، أو من دائرة المدنس إلى دائرة المقدس.وتكشف الدراسة في تصورها التطبيقي عن ثلاثة أبعاد معرفية: البعد الأول: يبحث في العلاقات المراوغة والمعقدة بين الذات المبدعة وهذه الأنساق المهيمنة، لأنها -أي الأنساق الثقافية- تجعل من ذواتها رهائن تتحرك في حدودها لا تتجاوزها، ووعي الذات المبدعة بداتها أولاً، وبهذه الأنساق ثانياً يجعلها قادرة على ممارسة المساءلة والملاحظة والرصد، تراودها رغبة في إصلاح المجتمع، وإعادة صياغة أنظمته، كنوع من الوفاء بالدين، ولكن تظل الأنساق الثقافية تمارس فاعليتها على نحو ما في المبدع كمصدر مهم من مصادر المعرفة.والبعد الثاني: يكشف عن الصراع/الصدام المعرفي المتسائل القائم بين الشاعر والأنساق الثقافية من ناحية، وتحليل التناقضات المضمرة داخل تلك الأنساق والتي يفصح عنها التحليل الثقافي الراهن لخطاب الشعر وتضمرها الثقافة، حيث تتحول فيها الأنساق إلى مقابر يدفن فيها الفكر الخصوصي المغاير للفكر النسقي. ويتغافل عنها التحليل الجمالي للخطاب من ناحية أخري. لعل هذه النظرة تمكننا من التعرف على الدور المضمر للنسق في الفعل الاجتماعي، وخطورته في نسخ القيم والأخلاقيات الظاهرة داخل الخطاب الشعري القديم.أما البعد الثالث: فيتبنى طرح أسئلة تتعلق بالطرق التي تتشكل بها الثقافة داخل النص، واستراتيجيات حضور النسق الاجتماعي الثوري داخل النص الشعري، وهذه التساؤلات لا تهدف إلى فحص المعارف والأفكار بقدر ما تهدفه إلى البحث في استراتيجيات المعرفة، وشروط إمكان الفكر. إنها لا تسعى إلى إظهار آليات جمال النص الأدبي، ومعاييره الأدبية، بل ترمي إلى البحث في الأبنية المعرفية والممارسات الفكرية التي تتيح للخطابات أن تتشكل وتنتشر، ولأنظمة المعرفة أن تبدو في وضوح للعيان، للخروج من الدائرة السحرية لإشكالية الذات والموضوع، إلى فضاء السؤال عن الوجود.