"أمس التقيت بلاداً وغادرتها باحثاً عن بلاد... أعبر كل الحدود لها، وأدخل كلّ الحدود بها... هذه البلاد كانت بيروت، وكان ذلك عام 1980، وهي في أتون الحرب الأهلية التي كانت ربما تصهرها لتعيد صياغتها وقد كنت أرها للمرة الأولى... واليوم وقد انقضى قرابة عقدين على لقائي الأول بها وهي تخرج من أنقاضها أعود إليها لتكون لي "حجر الجهات الأربع...
قراءة الكل
"أمس التقيت بلاداً وغادرتها باحثاً عن بلاد... أعبر كل الحدود لها، وأدخل كلّ الحدود بها... هذه البلاد كانت بيروت، وكان ذلك عام 1980، وهي في أتون الحرب الأهلية التي كانت ربما تصهرها لتعيد صياغتها وقد كنت أرها للمرة الأولى... واليوم وقد انقضى قرابة عقدين على لقائي الأول بها وهي تخرج من أنقاضها أعود إليها لتكون لي "حجر الجهات الأربع"، حيث أقيم منذ بضعة أعوام. أسكن قرب البحر في شارع يمكن أن يتواصل امتداده الرقمي إلى ما لا نهاية فهو يتحد بالبحر غرباً وأنا أنظر إليه دائماً من هذه الزاوية وأتجول كل يوم بين نهائيته ولا نهائيته في تمرين لا يفارقني... فهي تقف مثل عمود عنيد، أو شرخ في أديم لا نهائي الزرقة، وأحياناً أراها تهزّ رأسها أو تتمايل في الريح بقامتها العليّة تمشط شعرها أمام مرايا الموج، نخلة بمزاج صعب في قيامة دائمة تعلّمني الكثير عن جدوى وخصوبة اللااكتراث، وعن الإصرار المفرط بجسد زهيد. ولي مكتب صغير في منزلي، منزل تتدلى أقدامه في بحار نائية تمتد عبر قارّات تسكنني وأسكنها وما زلت أجهل طبيعة العقد القائم بيننا ونوع الانتماء ولكنها تتحرك بأنساغ متواصلة دون هوادة مثل دورة دموية لكياني خارج جسدي. أقدام هذا المكتب تتوزعها قارّات الداخل والخارج، جغرافية وتضاريس... فقدم في المتوسط هنا في بيروت التي تضمد جراحها بالإسمنت والأغاني والبارود... وقدمٌ في "هور الحمّار" جنوب الجنوب، جنوب العراق هناك حيث تجفف دماء ومياه حضارةٍ لتموت القرى الآهلة بطفولة البشرية مثل السلاحف بعيداً عن البحيرات هناك حيث يحترق النخل والقصب والبشر في "مطهر" عرقي... وقدمٌ ثالثة في باب المندب.. هناك حيث جبال تقتسم كالخبز ترتفع بحدائقها المعلقة بـ"القات" والكروم تحرسها عمائم العمائر المرصعة بالأقمار الوثنية والأختام السليمانية وأشكال التجريد الهندسية التي ما زالت تدهن واجهة الحاضر بعفوية ولا اكتراث البدء والنشوء البيضاء. وقدم رابعة في "بلاد الغال"، الإفرنج، كما يسميهم العرب القدامى... في فرنسا، حيث أقمت مسلتي ورفعت صيحاتي كثباناً صوتية لعربي يبحث عن صحرائه في كل مكان إلاّ في جغرافيتها وحدودها الطبيعية، هناك حيث الأبجدية الأخرى التي لم أرضع حليبها وقد صارت مرضعتي لكل شيء".هذه هي المدارات التي يطوف بها الكاتب، يجوس ويكتب فيها، عنها منها وبها، وله عين في الأبد وأخرى على الأرض، صفحتا كتاب لم يكتب قط، بل هو يتشكل في وجدان الكاتب في لحظة ذوبان الجسد في محيطه قطرة قطرة، كما يعصر كينونة في برهة طارئة. إنه "الإمضاء" والمضي يقودان الكتابة لديه... هما مصباحا الكاتب المتقد ليل نهار، لا لأنه يشبه مصباح ديوجين الإغريقي، بل وبكل بساطة لأنه معلق دائماً في سقف عتمات الداخل. لذا يمكن القول بأن الكتاب هو شكل من انتشار النص لدى الكاتب خارج الحدود "العرفية" لما يسمى بـ"الفن الشعري" يلقي الضوء على المسارات والمهارب التي يلجأ إليها شاعر خارج ميادين القصيدة وأسوارها، أو هي مدارات خروجه عن متون النصوص التأسيسية لديه ليقول أي شيء آخر.