رسم حدود المملكةقراءة في مجموعة "ممدوح رزق".. رعشة أصابعه.. روح دعابة لم تكن كافية لتصديق مزحة؟بقلم : رامز رمضان النويصري - شاعر- كاتب / ليبيامحاولة مقاربة أولى/ عامةيظل الشعر مسألة محيرة، وشكلاً غير واضح المعالم، أفق للتحليق لا محدود، وخدر جميل نستمرئ سريانه في العروق.. والشعر كفكر، رؤيا خضعت للكثير من التأويل، فمن حاجة التغني ...
قراءة الكل
رسم حدود المملكةقراءة في مجموعة "ممدوح رزق".. رعشة أصابعه.. روح دعابة لم تكن كافية لتصديق مزحة؟بقلم : رامز رمضان النويصري - شاعر- كاتب / ليبيامحاولة مقاربة أولى/ عامةيظل الشعر مسألة محيرة، وشكلاً غير واضح المعالم، أفق للتحليق لا محدود، وخدر جميل نستمرئ سريانه في العروق.. والشعر كفكر، رؤيا خضعت للكثير من التأويل، فمن حاجة التغني والإيناس، إلى رياسة الحكمة والبلاغة، إلى الفروسية، وغيرها من مظاهر الشعر التي أشعلت الشعراء.. غير الشعر كحاجة، يأتي الشعر كمادة، والبحث فيها مضن وصعب، ومحاولات القدامى في حصر الشعر في الموزون المقفى، يرفضه النص الحديث الذي يعمل إنتاج الشعر في الصور والمقابلات، وهذا الأمر يواجهنا في محاولة توصيف الشاعرية.. إلى أين أريد الوصول؟.تبدأ المشكلة من كوني لا أرفض أي نسق نصي يطلق عليه شعر _وإن كنت انحاز في الكثير لمفردة (النص) ربما لكونها مفردة فضفاضة، وأضيف إليها (الشعري) لجلالة الشعر_، وأقبل هذه النصوص وأتعامل معها في البحث عما يمكنها من الشعر.وفي التجارب الحديثة، وأقصد التجارب الحديثة في الشعر، لم يعد الأمر متعلقاً بالنص أكثر منها محاولة الشاعر القول، أو تحويل ما يحفه إلى شعر، وهي نظرية تعتمد الشعر لغة وأداة تعبير، فتتخلى اللغة عن أنقها وزخرفها إلى مجرد أداة توصيل، وتتحول الصور عن التخييل للنقل الطبيعي لها.البعض يرى أنه لا جنس أدبي مستقل، فكل النصوص هي في الأصل نتاج في مصدر واحد، فالأدب الحديث عمل على محي الفروقات بين الأجناس الأدبية المختلفة، فلا يمكن القول مطلقاً بأن النص شعر أو قصة، والرواية التي بدأت تستفيد من طاقات الشعر في إنتاج لغة روائية متميزة، وهم بالتالي (أي البعض من نقصد) يرون أن التميز في اللا جنس هو المفارقة المهمة، التي تكسر الفرضيات السابقة، والمعطيات المعروفة سلفاً لدى المتلقي.البعض على النقيض، يرى أن الهوية هي مصدر القوة في النص، واللا هوية هروب، وضحك على الذقون، فلابد من تحديد الصفات الخاصة بكل جنس أدبي للتعامل معه بما يقتضيه من تقنيات لمقاربته، وعدم الزج بالمتلقي في متاهات لا يستطيعها، ولا تغنيه من جوع.محاولة مقاربة ثانية/ عامةالمشهد، أو رصد الحالة.. هي أحد المرتكزات المهمة في تجربة النص الحديث، والتي نتلمسها بشكل جلي وكبير في تسعينيات القرن الماضي.. حيث يتمحور النص في مشهد أو حالة يخلص لها، هذا الشكل اعتمد على الفقرة أو العمل من خلال الفقرات بحيث يتم تكثيف المشهد، فكان أن خرجت هذه النصوص في شكلين: أول اعتمد فيه الشاعر النصوص القصيرة، فيكون النص مشهداً متكاملاً.. وثان يعتمد فيه طول النص على الفقرات التي تكونه، وهي إما تأتي في مشاهد، أو إنها تنويع في تفاصيل المشهد.. وللهروب من فخ المباشرة، يحول لغته باتجاه البساطة، أو أن يلبس النص تجلي الصوفية، أو تكوين سجع بصري يعمل على إنتاج إيقاع عام للنص.أما الخوف على هذا النص، هو الخوف من الوقوع في السطحية، بحيث الاعتقاد أن كل ما يرى/يشاهد يمكن نقله، يوقع النص في مطب المجانية، أو إيقاع النص في القصِّ (القصة)، فيحول من رصد إلى متابعة وقصٍ له.والنص كغاية، تمنح الشاعر جواز الوقوع في الحد، وتحل له التعليل للفعل.. فالنص لا يقتنع بالحدود أو التقنين، فهو كلعبة لغوية يجد نفسه في اللغة التي يمارس بها الفعل، في قدرته على تجاوز الجاهزية على الإبداع واستعلاء مستويات يحار فيها الفاعل، حتى إنه تجيز له خرق ما يستعلي بدعوى القدرة والإمكان، فيعتقده الشطح ونشوة التجلي.محاولة مقاربة داخليةمحولتنا السابقة هي محاولة مقاربة الشكل، وما يستدعيه من أدوات للكتابة، بنية الدخول للنص، والنص في شكله العام، مجموعة من النصوص (مجموعة كبيرة من النصوص) التي عمل فيها الشاعر على الرصد، أو محاورة المشهد، بحيث تكون مجموعة النصوص مجموعة مشاهد.المشاهد لا تقترح الشاعر نموذجاً لها، فهو الراصد أو المشاهد، والذي يفترض أن يكون الأبعد عن النص.. لكن يحلو للشاعر أن يكون موجوداً، ولو بإصبع، هي أنانية الشاعر (ربما)، أو نية أن يوضح مكانه من المشهد.. المجموعة يجمعها عنوان رئيس هو (رعشة أصابعه.. روح دعابة لم تكن كافية لتصديق مزحة؟)، أما عناوين النصوص فاختار أن لا تمثل في شكلين: شكل أول جاء في صور جمل قصيرة مكونة في طرفين (فعلية–اسمية-ظرفية)، أو جمل طويلة (على ذات القياس)، وشكل ثان في شكل مفردات.. وهي نية مبيتة لتقديم المشهد في شكل مختصر، وتحديد زاوية الرؤية.. أما اللغة فلم تحاول المراوغة، تباشر لقصدها دون واسطة، لا تحاول المجاز أو الحلول في الدلالات.. إنها تقصد غايتها دون السقوط في المباشرة كونها لعبة لغوية لغاية الإحاطة بالمشهد، فتشتغل على إبهار حاسة التلقي البصرية (في رسم المشهد وتصويره) دون الحاجة لمعادلة اللغة، ودلالاتها.نص/ يجلس بينكم: (يتحدث/ يضحك/ يصمت/ فجأة سينهض واقفا/ ممسكا برقيته/ ويشهق/ يشهق/ بحشرجة عالية/ وبعينين جاحظتين/ يشهق/ لا .. لا/ لا تفزعوا/ هو فقط/ يموت الآن/ وهذا أمر غير مهم بالطبع/ لأنه سيفعل ذلك/ بينما لا يزال جالسا بينكم/ يتحدث/ ويضحك/ ويصمت).تعتمد نصوص هذه المجموعة على اقتناص المشاهد القريبة، فطالما أن التسعينات أكدت في شعرائها الانحياز للذات، في الإيمان بالأسطورة الشخصية، فإنها تحول الذات (الفرد) محوراً لهذه الأحداث، فلا يرى الشاعر نفسه خارجها، أو بالبعيد عنها، وإنه ليجد المكان الذي يريده في داخل الحدث (المشهد).نص/ الرحيم: (خذ/ هذه لوحة بيضاء/ من أجلك أنت وحدك/ ارسم فوقها كل ما كنت تريده/ كل شيء/ كل شيء/ الوجوه/ الشوارع/ البيوت/ الذكريات/ السماء/ الأرض/ بالضبط/ مثلما كنت تريد للأمور أن تحدث/ ضع جميع ما كنت ترغبه/ ولم يأت/ كل شيء/ ولا تنس أي شيء/ ها/ هل انتهيت . . . ؟/ حسنا/ يبدو أن حالتك أفضل الآن/ تعال/ أعطني ما قمت برسمه/ أنظر/ أنت الآن هناك/ أجل/ أنت داخل اللوحة/ تعيش فيها بحق/ تتحرك بسعادة/ وسط كل هذه الأشياء الجميلة/ ياااااه/ هنيئا لك بالفعل/ أرجوك/ لا تشكرني/ هذا حقك/ ماذا كنت تظن ؟/ هل وصلت القسوة/ لدرجة أن تحرم/ من لوحة بيضاء؟)الشاعر يدخل التجربة من خلال إرث قصصي، كونه قاص، يمارس فعل القصّ والكتابة القصصية، والقصة تختلف عن الشعر كونها تنزع للتحديد، دون المطلق الذي يحاوله الشعر، والنصوص تكشف حساً منحازاً للتحديد، فالشيء بعينه لذاته لا مجرداً، فهو يحدد الشخوص بصفاتهم، والاتجاهات والمستويات والتفاعلات والحركات، حتى ما يتعلق به شخصياً، فهو يحاول رصد مشهد يتعاون عليه برصيده القصصي، واللغة التي يريد أن تكون جسره للشاعرية، لكن حدود المشاهد الواضحة حدَّ الصّدم، تربك هذه العملية.. فالمبدأ في الشعر التخييل، ونحن أمام مشهد واضح المعالم، لا لبس فيه، واللغة تأتي خدمة للنص، لا غاية له، فالنص لا يسعى لاختراقنا، إنما يقدم مشهده جاهزاً.هذه الجاهزية (لا المباشرة) هي ما يقترحها النص/الشاعر متناً قابلاً للقراءة، فهو يعول على الحدود الواضحة ورصدها، بنية مفاجأتنا بالمشهد التي يفوق ما يمكن للتخييل تقديمه، فالواقع يصدمنا بما لا يمكن تخيله أو افتراضه، فهو كلاعب (الشاعر) يراوغنا عن المفترض والمتاح لديه بما لدينا، وهي أقرب إلى لعبة التخمين.. لكن النص يأخذ بالشاعر ويغويه حتى يقوده على مباشرة صريحة، توقع بالنص، خاصة وإنها تعمل على استسهال اللغة بالعادية.أيضاً محاولة افتراض أن كل ما يحدث يقبل العرض، وهي غواية قادت الشاعر للزج بالنص في المناطق المضربة، حتى كان النص على حافة يكاد يسقط عنها.. وهي افتراضات تجوزها نية الصدم، وان كل ما يحدث هو مشهد يقبله الشعر، وهي نظرية لا تحمل مقومات نجاحها.مجموعة النصوص هذه للقاص والشاعر "ممدوح رزق" تقدم تجربة تتمثل في غاية التواصل مع منجز حداثوي، بغاية فتح الآفاق أكثر باتجاه المطلق، الذي يراه الكاتب جهته الخاصة، مملكته التي يجد نفسه فيها متوجاً عن صخب الحياة الحديثة، وضجيج الكون، ومتاعب البشر، إنه يجيز لنفسه أن يسخر هذا المنجز ليتجاوز ضيق الحال، وصعوبات السفر، حتى يحقق مكانه هناك.. "ممدوح رزق" يؤكد أسطورته، ويعمل عليها ويؤطر حوادثها، ومشاهدها ليظل ممسكاً بها بذاته مخافة الضلال.كتبها : رامز رمضان النويصري - شاعر- كاتب / ليبيامجلة أنهآر - العدد 60أغسطس 2005