أصدر الدكتور محيي الدين عميمور، الوزير الجزائري الأسبق للثقافة، كتابه الأخير تحت عنوان “الثورة المضادة …واقعا، وأهدى الكتاب، لكل شهداء مصر الأبرياء، أيا كان جنسهم أو انتماؤهم، وأيا كان مذهبهم أو دياناتهم، وأيا كان مكان استشهادهم، وتعبير حب وتقدير ووفاء لشعب مصر العظيم.وجاء في مقدمة الكتاب:كانت الأحداث التي عاشتها وتعيشها مصر منذ...
قراءة الكل
أصدر الدكتور محيي الدين عميمور، الوزير الجزائري الأسبق للثقافة، كتابه الأخير تحت عنوان “الثورة المضادة …واقعا، وأهدى الكتاب، لكل شهداء مصر الأبرياء، أيا كان جنسهم أو انتماؤهم، وأيا كان مذهبهم أو دياناتهم، وأيا كان مكان استشهادهم، وتعبير حب وتقدير ووفاء لشعب مصر العظيم.وجاء في مقدمة الكتاب:كانت الأحداث التي عاشتها وتعيشها مصر منذ الخلل الذي أصاب ثورة 25 يناير فرصة لبعض الأصوات لكي تشكك في تاريخ مصر وفي دورها العربي الكبير، خصوصا في القرن الماضي، وتزايدت الوقاحة أحيانا لتسيئ لشعب نبيل دفع ثمنا هائلا على مذبح قضايا الأمة منذ حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، ومرورا بالأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات، لمجرد أن بعض أبنائه خان أمانة التاريخ والشهداء.كانت مصر، ذات الحضارة العريقة، منارة الوطن العربي الثقافية والفنية في القرن الماضي، ومن الجحود ونكران الجميل وقلة الهمة نسيان دورها الكبير آنذاك في نشر العلم والمعرفة وخصوصا في دول الخليج، وإلى درجة أن هذا الدور كان من أهم أولويات الرئيس جمال عبد الناصر العربية.وكانت مصر تحتضن العشرات من اللاجئين السياسيين وتمنحهم الأمان وإمكانيات العيش الكريم، وكانت تستقبل المئات من أبناء الوطن العربي والقارة الإفريقية، وتوفر لهم المنح الدراسية ليعودوا إلى بلدانهم أكثر علما مما تركوها، وكانت مصر الملكية ثم الجمهورية وحتى الخمسينيات هي التي تقوم بإعداد كسوة الكعبة المشرفة، التي كان يحملها أمير حج مصري يتولى توزيع صدقات بلاده على المحتاجين من أهل الحجاز، قبل أن تعرف المنطقة آبار البترول وتتمتع بعائداته.وفما يتعلق بالجزائر، كنت تناولت الكثير في كتابي السابق الذي صدر في 2011 تحت عنوان “أربعة أيام صححت تاريخ العرب”، ولعلي أسجل اليوم الامتنان لمصر الخديوي إسماعيل، التي دعت الأمير عبد القادر بن محيي الدين للاحتفالات بافتتاح قناة السويس في 16 نوفمبر 1869، وأكرمت وفادته، وأسجل لمصر الملك فاروق، احتضانها زعماء المغرب العربي، المغربي عبد الكريم الخطابي والجزائري الشاذلي المكي والتونسي الحبيب بو رقيبة والليبي إدريس السنوسي، بجانب آخرين من أبناء المنطقة العربية، وجدوا في مصر الملاذ الآمن في مراحل مضطربة من تاريخ المنطقة، وأعبر عن التقدير لمصر عبد الناصر، التي أكرمت طلابنا الوافدين ولم تتوان عن دعم طلائعنا الثورية، بل كانت في طليعة الداعمين.ولقد كانت أخوة الثورة المصرية والثورة الجزائرية مما يؤرق الاستعمار الفرنسي، الذي عبر عن ذلك بوضوح في نوفمبر 1956، عندما أرسل لغزو بور سعيد سفاح الجزائر، الجنرال ماسو، وتأكد ذلك إلى درجة جعلت بن غوريون يقول ما معناه أن هزيمة ثوار الجزائر هي انتصار لإسرائيل في حربها ضد مصر.وجسدت الجزائر المستقلة الامتنان الأخوي والتضامن النضالي بعد ذلك في حرب 1967 وبصورة أكثر فعالية في أكتوبر 1973.يومها، عرف الوطن العربي تضامنا هائلا لم يعرفه ولن يعرفه بعد ذلك، فقد أصابه ما يشبه سرطان الزجاج في نوفمبر 1977، عندما رأى الرئيس أنور السادات أن يشق الصف العربي بزيارته البائسة لإسرائيل، ومنذ ذلك الوقت لم تعد العلاقات بنفس الصفاء الذي كانت عليه في الماضي قبل الزيارة المشؤومة، ثم في مرحلة كامب دافيد وما ارتبط بها.وانهالت على الذين اختلفوا مع القيادة المصرية حملات تحريض لم يسلم منها أحد، وكان من بعض مظاهرها تخوين قائد عسكري متميز في حجم الفريق سعد الدين الشاذلي، والتخلص بعد ذلك من قائد آخر في حجم عبد الغني الغمسي.وعشنا في تلك المرحلة أمرا مشابها لما نعيشه اليوم، حيث أصاب الهياج أجهزة الإعلام الثقيل والمكتوب فكان أداؤها فسقا بكل المقاييس، وجعلت الأسود ناصع البياض والنهار حالك الظلام، ومارست فجورا يستخف بذاكرة المشاهد ويستهين بمقدرته على التمييز بين الحق والباطل وبين الصدق والأكاذيب.ولقد عرفت العلاقات المصرية العربية سحابات متتالية جعلتها القيادات العربية الواعية، سحابات عابرة لا تمطر كراهية ولا تحجب نور المحبة وصفاء السريرة، حبا في مصر وفي شعب مصر وتقديرا لمصر ولدور مصر.وكان المشكل الحقيقي مع الأشقاء في بعض مستويات القيادة المصرية هو أنهم لم يستطيعوا تفهم الكثير من المواقف العربية ورفضوا تقبل وضعية الاختلاف في الرأي، الذي يجب ألا يُفسد للودّ قضية كما يُقال، وبرغم أن جل القيادات العربية كانت تتحكم دائما في غضبها من مواقف مصرية اتسمت بالتعالي وأدت إلى خسارات كبيرة للوطن العربي.وكان الأمر الذي لا يحتمل هو أن بعض الأشقاء، بتأثير الإعلام الموجّه، لم يضيعوا أي فرصة للتغني بأن العرب عادوا إلى مصر خافضي الرؤوس رافعي الذراعين، بل وعادت بعض المنابر المصرية إلى رفع شعارات المن بل والاستكبار.ولم يرد الأشقاء في مصر، وعلى وجه التحديد من يمسكون بناصية المنابر الإعلامية، إدراك حقيقة بسيطة تقول أن عودة حدّ أدني من التوافق العربي بين مصر وبقية العرب في نهاية الثمانينيات وبعد سنوات من اغتيال الرئيس السادات، لم يكن اعترافا من هؤلاء بأنهم كانوا على خطأ من موقفهم تجاه ما أصبح يسمى عملية السلام المصري الإسرائيلي، بل كان أساسا محاولة مخلصة لعدم تحميل شعب مصر طويلا وزر ما قام به السادات من شق للصف العربي، بعد أن انتقل الرئيس المصري إلى رحاب الله في حادثة المنصة المعروفة.ولم يكن الوطن العربي وحده الذي أصابه رذاذ الحماقة والغرور القيادي، بل أصاب إفريقيا منه ما أصابها، خصوصا إثر محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في إثيوبيا في منتصف التسعينيات.وانكشف الأثر التخريبي لذلك الموقف عندما قامت أزمة سد النهضة في إثيوبيا في بداية العشرية الثانية من القرن الجديد، ووجد النظام المصري نفسه معزولا تماما في محيطه الجغرافي، وكان الأمر الغريب هو أنه كان نفس الوضع الذي كانت عليه إسرائيل في مرحلة أكتوبر، عندما قاطعتها كل الدول الإفريقية بفضل عمل دؤوب لقيادات عربية كان في مقدمتها الرئيس الجزائري هواري بو مدين، والذي سخر مؤتمر عدم الانحياز الرابع في الجزائر عام 1973 لحشد تأييد دول العالم الثالث للواقفين على خط النار ضد العدو الإسرائيلي.ويثبت تطور الأحداث خطأ كل الذين راهنوا على النتائج الإيجابية لمعاهدة السلام، فقد عرفت مصر سياسة الانفتاح التي خربت الاقتصاد المصري، وقزمت وجود الطبقة الوسطى لصالح ثلة رأسمالية شرهة كانت أسوأ من رأسمالية ما قبل 1952.ولم يحاول الوطن العربي أن يتصرف بما يمكن أن يعتبر تدخلا في الشؤون الداخلية المصرية، لكن أمرا واقعا كان يؤلم الوطنيين العرب والمصريين أنفسهم هو أنه، ومنذ ما سمي معاهدة السلام، انفرط عقد البلدان المتناقضة مع إسرائيل، ولدرجة أن دولا، كان الالتزام السياسي الرئيسي فيها دعم العرب في صراعهم مع العدو الصهيوني، أخذت في إقامة علاقات وثيقة متزايدة العمق متواصلة الاتساع مع الكيان الصهيوني.وخسر العرب الصين الشعبية والهند وإسبانيا واليونان بل وقبرص، إضافة إلى جل الدول الإفريقية جنوب الصحراء، وخصوصا دول حوض النيل، التي تسربت إليها عناصر الوجود الإسرائيلي بما أصبح يشكل تهديدا مباشرا لحقوق مصر في شريانها الحيوي الذي يحمل لها الحياة.وفيما يتعلق بالجزائر، كانت القيادة الواعية في كل من البلدين قد استطاعت تجاوز الشنآن الذي عرفته العلاقات في منتصف الخمسينيات إثر تنحية الرئيس أحمد بن بلة، ثم جرى تجاوز القطيعة التي عرفتها المنطقة إثر مواقف السادات الانفرادية، لكن العلاقات توترت مرة أخرى إثر تداعيات مباراة الكرة الشهيرة في أم درمان بالسودان عام 2009، وزاد من التوتر دور الإعلام المصري في تزكية روح الكراهية بين الشعبين والذي كانت ردود فعله الجزائرية لا تقل ضراوة وعنفا.ومع ذلك بدأ التوتر يخف تدريجيا بفضل عدد كبير من المثقفين المصريين والجزائريين الذين تنادوا لإطفاء الحريق المفتعل.وانقشعت سحب البغضاء تماما مع قيام الثورة الشعبية المصرية في يناير 2011، وتحمسنا جميعا لأول ثورة شعبية حقيقية في القرن الواحد والعشرين، وكان الإنجاز الرائع لشباب مصر، الذي تجندت الأمة وراءه، مصدر فخر للجميع، وإن كنا نحس أن هناك في الوطن العربي والعالم الإسلامي من لا يشعر بالارتياح لما حدث، خصوصا أولئك الذين ألفوا أن يكون مراسلهم الرئيسي في مصر نظام الحكم ومن يرتبطون به ويلتزمون معه.وسارت الجزائر الرسمية على النهج الذي لم أكن أتفق معه كثيرا، وكان شعاره عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الشقيقة والصديقة، لأن هذا النهج قد يكون مقبولا من جزر القمر أو الصومال أو جيبوتي، مع تقديري لشعوبها، ولكنه عسير التقبل إذا صدر عن دول دورها أن تتحمل مسؤوليات سياسية وأخلاقية في محيطها الجغرافي.وكان الأمر عسير التقبل على مجموع المثقفين، فمن جهة، لم نردْ أن نخلّ بالتزاماتنا تجاه ما نؤمن به من التزامات أخوية تجاه الأشقاء والأصدقاء، ومن جهة أخرى، لم نكن نريد أن نتصرف بما يمكن أن يمس بالعلاقات الرسمية بين دول المنطقة في ظروف بالغة الحساسية.لكن التطورات الدرامية فرضت على بعضنا أن يقول كلمته، وهكذا أصدرت كتابي منذ سنتين عن الثورة الليبية[1]، وتناولت أحداث تونس وسوريا في مقالات متعددة نشرت باللغتين.وكانت أحداث مصر، التي يتصور كثيرون أنني أعرف عنها أكثر مما أعرفه عن غيرها، في صلب اهتماماتي، وهكذا خصصت للحديث عن مصر حيزا هاما في كتابتي، وكنت أرى في ذلك وفاء للشعب الذي احتضني طالبا فقيرا قبل الثورة الجزائرية وخلال بعض سنواتها، وتقديرا لبلد محوري هام في الوطن العربي والقارة الإفريقية والعالم الثالث.ومع تطور الأحداث في مصر بشكل مأساوي انفطرت له قلوب الجميع رأيت أن سرعة التطورات تجعل حدث اليوم يُنسي أحداث الأمس، وبالتالي يجعل الحكم على الأمور من الصعوبة بمكان، ومن هنا رأيت أن أجمع كل ما كتبته عن مصر لأعيد نشره حرفيا، وبدون أي تغيير جوهري إلا ما يفرضه تصحيح الأخطاء المطبعية أو تصويب التعبيرات الإنشائية، بهدف أن يتمكن القارئ المهتم من مواكبة الأحداث عبر الشهور المتتالية، ويستطيع أن يعطي لله ما لله ولقيصر ما لقيصر.ولا أعتذر عن خطأ ارتكبته في التحليل أو الاستنتاج، لأنني ممن يؤمنون بأن الاجتهاد يحتمل الخطأ والصواب، والأمانة تفرض أن أسجل كل ما قلته بما فيه أخطاء الاجتهاد أو التسرع في الأحكام، تاركا الحكم النهائي للقارئ.