نواصل في هذا الكتاب حوارنا مع ابن رشد ،الذي هو حوار من وراء حجابين، حجاب النص وحجاب الزمن الذي نحن فيه، بأسئلته ومعارفه ومقترباته. بهذا يغني أن المعية تقتضي منا الاعتراف من جهة بوجود نوع من المناسبة والمرافقة بيننا وبينه، أي بوجود شيء منا فيه ووجود شيء منه فينا، ومن جهة أخرى بانتمائنا إلى مجال دلالي مخالف لمجاله، وأفق تاريخي وفل...
قراءة الكل
نواصل في هذا الكتاب حوارنا مع ابن رشد ،الذي هو حوار من وراء حجابين، حجاب النص وحجاب الزمن الذي نحن فيه، بأسئلته ومعارفه ومقترباته. بهذا يغني أن المعية تقتضي منا الاعتراف من جهة بوجود نوع من المناسبة والمرافقة بيننا وبينه، أي بوجود شيء منا فيه ووجود شيء منه فينا، ومن جهة أخرى بانتمائنا إلى مجال دلالي مخالف لمجاله، وأفق تاريخي وفلسفي مغاير للذي كان يتعامل معه ويعيش فيه .إن هذه المعية المركبة تضعنا في موقف حرج: فكيف يمكن أن نكون أوفياء لأنفسنا دون أن نفقد قابلية الاتصال معه، وأوفياء له دون أن نفقد أنفسنا ونتنكر لزماننا وأهلنا؟ كيف يمكن بالذات مع ابن رشد ومع زماننا معا، لا أن نكون مع أحدهما بالذات ومع الآخر بالعرض؟ ولما كانت علاقة المعية علاقة إضافية بين فعل وانفعال، وبين فاعل ومنفعل، كان علينا أن نفعل في القول الرشدي أثناء انفعالنا به، الأمر الذي من شأنه أن يحول الانفعال بالقول الفلسفي القديم إلى ما يشبه فعل فلسفي حديث .هكذا يتحول المنفعل إلى فاعل والعكس ،مما يعني أن علاقة المعية لا تتصور الحقيقة جاهزة تفيض من ذات الفاعل إلى ذات المنفعل القابل، وإنما هي حقيقة في طور التكوين الدائم عبر المداولة بينهما بكل ما تقتضيه من تواصل وتقابل وصراع. ولا ينحصر اهتمام هذا الكتاب، كما هو واضح من عنوانه وفهرسته، في موضوع واحد، ولا كان وليد نفس واحد يسري فسه من بدايته إلى نهايته، بل هو ثمرة أنفاس متعددة، وأسباب نزول مختلفة. وحتى إذا شعر القارئ بوجود ما يشبه الوحدة فيه، فإنها لن تكون سوى وحدة عرضية . بيد أن الصورة العامة التي يمكن أن تتشكل أثناء هذه الرحلة المتعددة مع ابن رشد، هي أن الحدود الجازمة والقاطعة بين البرهان من جهة، والتمثيل والتأويل والتضاد من جهة أخرى، وقد ذابت وحلت محلها مدارج مختلفة تتناسب مع مراتب تعقد الحقيقة التي كان يعتقد في وجودها .هكذا لم يعد لابن رشد وجه واحد يتسم بالصرامة البرهانية والنسقية المذهبة، بل صار له أكثر من وجه حسب المرتبة التي كان يفكر فيها، وحسب الموقع الذي نوجه فيه للنظر إلى فكره.