"حينما كنت مدعواً لألقي محاضرة من الشعر البرلسكوني في قاعة كلية الآداب في جامعة أمستردام قابلني الشاعر الإسباني باولو كورسيكا مبتسماً في وجهي وهو يردد بيت إبن زيدون الشهير: أضحى الثنائي بديلاً من تدانينا/وناب عن طيب لقيانا تجافينا. وحينها إستذكرت وجه ولادة المشرق بالحب والشعر فقلت له: لكل شيء إذا ما تم نقصان/فلا يزن لطيب البشر إ...
قراءة الكل
"حينما كنت مدعواً لألقي محاضرة من الشعر البرلسكوني في قاعة كلية الآداب في جامعة أمستردام قابلني الشاعر الإسباني باولو كورسيكا مبتسماً في وجهي وهو يردد بيت إبن زيدون الشهير: أضحى الثنائي بديلاً من تدانينا/وناب عن طيب لقيانا تجافينا. وحينها إستذكرت وجه ولادة المشرق بالحب والشعر فقلت له: لكل شيء إذا ما تم نقصان/فلا يزن لطيب البشر إنسانُ. وبعد أن ترجمتها له بالإنكليزية كما سبق وأن ترجم لي بيت إبن زيدون. وللترجمة حكاية أخرى ولكني سأضع نقطة نظام تجاهها الآن وهي أن أية كلام يترجم فهو يفقد الكثير مما كان يحمله ويصبح أشبه بزهرة البلاستيك مقارنة مع الزهرة الطبيعية. وحين خروجي من القاعة إذ قابلني الأديب الكبير الإفريقي الأصل الفرنسي الثقافة غالبليونيرودا. وعندما صدحت أمامه قائلاً: وغداً تخلع الشمس رداءها لتعرى/فتثمر الأشجار خبزاً وقهوة وسلاماً...ياقطتي الصغرى وداعاً. فأشرق وجهه الأسمر النحيل، وتفتحت بشرته وإحمرت وصار وكأنه فرنسي أو كأنني أجريت له عملية تجميل. وقال لي: كم هو جميل هذا الشعر، إنه لي. وكيف حالك وصديقك العظيم؟ قلت له: أبا الطيب، قال وهل هنالك أعظم منه شعراً؟ قلت لا ولا يسمعك الإنجليز. فصرخ بأعلى صوته شكسبير قوتوهيل ( فلتذهب إلى الجحيم ). وما الدهر إلا من رواة قصائدي، إذ قلت شعراً أصبح الدهر منشداً. حينها مر من أمامنا السيد وليام وهو يردد بصوت خافت ( وغداً تشرق الشمس من جديد وليحي شكسبير، فضحكت في وجه من حولي وتركتهم ذاهباً إلى المطار لأصل إلى غرناطة وأتكئ أمام قصر الحمراء محتضناً دفء الأندلس ولوركا بين يدي. يغني بصوته الشجي: ( ياطيور السراب خذيني بعيداً إلى كوخ ماجدولين. هناك بعضٌ من عنب، وصوت البلابل ينادي سنبقى خالدين ). كل ما كان سابقاً ليس حقيقة، بل من وحي خيالي وتصورته على لسان الأديب السوداني الطيب الصالح، ذلك الرجل الموسوعي والعبقري، كيف لا وهو يعشق المتنبي ويعرفه جيداً، ويقول: أجمل ما في المتنبي أنك كلما إزداد بك العمر وتجارب الحياة كلما إكتشفت عظم شاعرية هذا العبقري وصاحبنا الأديب السوداني العتيق له سلسلة كنب بعنوان مختارات وهي من أمتع الكتب في أدبنا العربي، ففيها الكثير الكثير من الثقافة العالمية المتعددة والمبهرة فهو يغوص في ثقافات الشعوب، ويأتي بما لا يخطر على البال، ويتجول في العديد من العواصم الشرقية والغربية ممسكاً بزمام الإبداع والثقافة الموسوعية العجائبية بكل أصالة عربية". ويمضي الكاتب في مقالته هذه كما في جميع المقالات والنصوص الشعرية والنثرية التي ضمها هذا الكتاب، يمضي في سردياته التي إتسمت بالطابع النقدي لما هو كائن في مجتمعاتنا على الصعيد الإجتماعي والثقافي والسياسي والحضاري وكأنه بائع الشجن. كيف لا وهو يحكي حكايات شؤون وشجون ذلك المجتمع الذي يرفل بسعة من العيش ومن الثقافة...ولكن أي عيش..وأية ثقافة؟ ولكن لا عليك فها هو الكاتب يحدثك عن ذاك بلا حرج.