أن تكتب عندما تضيق بك الحال، وتزدحم الهموم، وتدلهم الغيوم، وعندما يستبد بك حنين داخلي لا تفهم سره ولا تعرف معناه، ويستفزك قلق متحفز دائم، وعندما تزلزلك الذكريات، وتذهب تبحث عن أحياء الأمس فلا تكاد تعرفها، إلا بقية من بيوت ودكاكين وبعض الأزقة المطينة، وترى المسناة هرمة متداعية، والشاطئ تغمره الأوساخ، ولا أثر للقوارب والصيادين ولا...
قراءة الكل
أن تكتب عندما تضيق بك الحال، وتزدحم الهموم، وتدلهم الغيوم، وعندما يستبد بك حنين داخلي لا تفهم سره ولا تعرف معناه، ويستفزك قلق متحفز دائم، وعندما تزلزلك الذكريات، وتذهب تبحث عن أحياء الأمس فلا تكاد تعرفها، إلا بقية من بيوت ودكاكين وبعض الأزقة المطينة، وترى المسناة هرمة متداعية، والشاطئ تغمره الأوساخ، ولا أثر للقوارب والصيادين ولا للمقاهي الشعبية التي كانت تضج بالحياة... وعندما تزور القبور، وتستحضر الراحلين، وتخشى رحيل الأحياء... وإذ تعتز بالوطن، وتحيا أمجاده، وتشرب من مائه... وإذ تهتف الوالدة من تحت التراب: "كيف حال قطك الجميل يا ولدي؟". فتجيب: "أراك في عينيه الصافيتين" وإذ يزداد الشعر بياضاً وينطوي من العمر عام جديد، وتصرخ بحرقة وعذاب كما صرخ الأولون: "ألا من يخبرنا بأسرار الموت والحياة!!".تلك هي فلسفة عزيز الحاج التي من خلالها صاغ سطور "دفاتر الشخص الآخر". والحال أن تلك الدفاتر لم يقصد بها أبداً أن تكون سيرة ذاتية سياسية، أمينة ودقيقة، وأن الأحداث السياسية الكثيرة الواردة فيها قد استخدمت كسياق، أو إطار تاريخي عام، ولم يقصد بها تأريخاً وتوثيقاً يعتمد عليها مؤرخ الأحداث، فالسياسة في هذه الدفاتر، رغم أهميتها كركن أساسي في الكتاب، إلا أنها ليست هي الجوهر ولا القصد، وإنما ركزت على النواحي الإنسانية والعاطفية والاجتماعية من خلال سيرة إنسان في المجتمع العراقي في فترات معينة من تاريخ العراق.فالكتاب ليس تاريخاً ولا سيرة ذاتية محضة؛ وإن كان يتضمن الكثير من الوقائع الصحيحة المستمدة من سيرة الكاتب. و(نجيب) ليس هو عزيز السياسي الذي اشتغل ربع قرن في حركة سياسية معروفة عن قناعة والتزام وتركها عن قناعة وبراحة ضمير. صحيح أن فيه منه أشياء وأشياء، ولكن البطل هو الإنسان فيه بكل عواطفه وأعماقه وخفاياه، وتعطشه للأدب والكتابة والبحث عن الذات، والقلق الفكري الدائم، والشعور بالوحدة وبالغربة... إنها قصة الجوانب الإنسانية من ذلك الإنسان السياسي، والخلفيات العائلية والاجتماعية التي تعامل معها وتأثر بها، في أثر يمتزج فيه الواقع بالخيال. وما أروع أن يخلف الإنسان من بعده صفحات صادقة تحدث الناس عن حبه لوطنه وللحيوان والطبيعة، وتشركهم فيه. فالإبداع الأدبي والفني هو الأبقى في الإنسان، وهو الأجمل وهو الأشرف، ويقول صاحب هذه الدفاتر بأنه وإذا كان لا يدّعي شيئاً من الإبداع، فإن عملية الكتابة بالنسبة له هي تصفية حساب مع الخطايا، وغسيل للروح، ومطهر من الألم والعذاب، وراحة ضمير، وتعبير عن حب ووفاء.