"وجد نفسه بلا أم ولا أب. ملحق بكوخ، وبأرض خلاء، وبسماء عالية، وثمة امرأة عجوز خرساء، تغذيه بصرر الخضراوات المنتزعة من البراري، وبكسرات الخبز اليابسة. الأرض الخلاء الواسعة التي تلي الكوخ، تبدو رمادية كالحة، تنتشر فيها الحفر الكبيرة التي تتخذ أمكنة لقضاء الحاجة، وهي تتحول إلى مستنقعات سبخة عندما ينهمر المطر. وتقع فيها مزابل وأراض ...
قراءة الكل
"وجد نفسه بلا أم ولا أب. ملحق بكوخ، وبأرض خلاء، وبسماء عالية، وثمة امرأة عجوز خرساء، تغذيه بصرر الخضراوات المنتزعة من البراري، وبكسرات الخبز اليابسة. الأرض الخلاء الواسعة التي تلي الكوخ، تبدو رمادية كالحة، تنتشر فيها الحفر الكبيرة التي تتخذ أمكنة لقضاء الحاجة، وهي تتحول إلى مستنقعات سبخة عندما ينهمر المطر. وتقع فيها مزابل وأراض رحبة مليئة برمل ناعم، تتدافع فيه أرجل الصبية لقذف كرة من القش، أو المطاط الممتلئ بالقراطيس, نحو هدف مكون من حجري متباعدين. وفي شرق هذه الأرض تقع أكواخ تمتلئ بعبيد سابقين، وفرق الرقص ومنازل الشاذين وشلل القمار والرجال "الازكرت"، وبعدها يتراء البحر، وفي غربها مستنقعان وأكواخ متناثرة وبنيان قليلة ومقابر غريبة، هذه الساحة، كانت الوجود المرئي والمغذي ليحيى، الذي كان طفلاً يتسلل كالقطة الصغيرة إلى الأشياء المهملة والمزابل، فينتزع أشياءه ومأكولاته منها. إنه يعود بأسرع من لمح البصر إلى حماه، بين السعف والظلام، ويدقق في صيده، ويأكل ويحدق بين الخوص، خائفاً من الرجال والأولاد الشرسين الذين يصفعونه، أو يتسلون باكتشاف جسده. ينتظر خطوات مفرحة حبيبة، وأنفاساً لاهثة أمومية، هو كوَّته الحنون على العالم البشري، إنها خطوات "جدته"، وفتحها للباب، وتحديقها الفرِح بوجوده باقٍ ومعافى. هي أجمل لحظات يومه، حيث يندفع إلى الصرة التي تحملها، وينتزع الخبز والبصل و"الكاكول": هذه النبتة الخضراء التي تنبت بعفوية ووحشية في الأراضي الخلاء الواسعة ويندفع للأكل منتشياً، مذهولاً بوجود "بيضة" أو برتقالة سليمة. وكان لا يكاد أن يعرف اللغة، فهذه الجدة العجوز خرساء، نهمهم بشظايا من أصوات وترسم انفعالاتها بالإشارات المعقدة، ولكن لغة الإشارات هذه غدت طريقة للشبع ومعرفة الخارج".