لا يمكن للهدفيّة أن تنفكّ عن فعل الإنسان الحكيم، وكلّما كان فعله ذا أهمّيةٍ بالغة اطّردت وتزايدت الهدفيّة فيه، ونأت بعيداً عن اللَغويّة، الأمر الذي يعتبره العقلاء أقرب إلى البداهة من غيرها، هذا في الإنسان، فكيف بفعل المبدع القدير خالق السماوات والأرضين، العالم بخفايا كلّ الوجود، والذي أرسل لهذا الإنسان الأنبياء والرسل بالشرائع؛ ...
قراءة الكل
لا يمكن للهدفيّة أن تنفكّ عن فعل الإنسان الحكيم، وكلّما كان فعله ذا أهمّيةٍ بالغة اطّردت وتزايدت الهدفيّة فيه، ونأت بعيداً عن اللَغويّة، الأمر الذي يعتبره العقلاء أقرب إلى البداهة من غيرها، هذا في الإنسان، فكيف بفعل المبدع القدير خالق السماوات والأرضين، العالم بخفايا كلّ الوجود، والذي أرسل لهذا الإنسان الأنبياء والرسل بالشرائع؛ عسى أن يتّخذها سبيلاً لنيل رضاه عزّ وجلّ، فمن العجيب بل المستحيل عقلاً أن تخلو تلك الشرائع وأحكامها من الهدفيّة، وخصوصاً الشريعة الخاتمة التي أراد لها الله الخلود والطراوة في جميع الأزمنة. وحتّى تؤدّي ما عليها لزم أن تتَّصف بما يجعلها تحاكي كلّ التطورات والتقلّبات التي تمرّ بها البشريّة، وما يحدث في المجتمعات من تحوّلاتٍ تقتضي حلولاً شرعيّةً ناجعةً تحافظ على الهدف الأساس من وجود الإنسان على هذه البسيطة وخلافته لله تعالى فيها.هذه الحقيقة المتقدِّمة تناولها هذا الكتاب، ولكن عبر ما سطّره السيد الشهيد محمد باقر الصدر في فكره النيّر، و بما امتاز به من عبقريّةٍ قلّ مثيلها، أخذ يرمي ببصره أطراف الإسلام ونواحيه من جهة، ودقّق البصر في أعماقه من جهةٍ أخرى؛ ليستكشف مكنوناته، فرأى أنّ الإسلام منظومةٌ متكاملةٌ مترابطة تنبع من عمق الحياة، فعكف يصوغها بالشكل الذي يتناسب مع العصر، ويجذب إليها الأجيال الصاعدة.إنّ الخطاب الديني لا يحتاج إلى تجديد بمعنى التغيير، وإنّما يحتاج إلى إصلاح، وإصلاحه بأن ننفض عنه الغبار والدرن الذي غطّاه به فقه المصالح ومناسك الأموات، وبأن تعاد أجزاؤه التي قام بتفكيكها تجّار الدين ليشتروا به ثمناً قليلاً، وبأن يتمّ الربط بين جميع أجزائه كي يتحرّك. والدين إذا لم يتحرّك فهو ليس بدين؛ لأنّ الدين طريق وسبيل، وهو الصراط المستقيم نحو وصول الأُمّة إلى أعظم النعم وخير الأمم. ولا معنى للسبيل وللصراط إذا لم تكن هناك حركة، وإذا لم يصبح الدين محرّكاً فإنّه يتحوّل إلى أفيون؛ لأنّ التوقف في الصراط تراجع وتخلّف.والجهاز لا يتحرّك إذا لم تترابط جميع أجزائه، ولاسيّما الأساسية منها، وأهمّ أجزاء مركبة الدين؛ الوحي والنبوّة والعقل. والعقل هو الحلقة الأولى التي ينبغي أن تتحرك نحو الوحي والنبوّة، فإذا اندمجت بهما فإنّهما يثيران فيها (دفائن العقول).وحينئذٍ سوف ينهض نبيّ الباطن (العقل) على شكل طاقة هائلة، تكشف أهداف الوحي والنبوّة وأسرار الأعماق والآفاق، وعندها سوف يقوم النبيّ الباطن بتحريك واقع الحياة نحو أهداف النبيّ الظاهر، فيربط المعاش بالمعاد في صراط المنعم عليهم، وفي طريق: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى).ولكن إذا ما غاب النبيّ الباطن أو سجن وبقيت دفائن العقول تحت تراب الأهواء المختلف الألوان، فإنّ النصَّ المعصوم (الوحي والنبوّة وامتدادها القطعي) سوف يفقد بابه ومفتاحه والكاشف عنه، ولن يجد طريقه لتحريك المجتمع الإنساني نحو كماله المنشود.وإنّا لنرجوا أن تكون هذه السطور المتواضعة عبقاً من نسيم النبوّة، فتكون فيها إثارة للنبيّ الباطن، وإنارة للدارسين والباحثين في مجال الاستنباط والثقافة الدينيّة، تمكنهم من القراءة الأمثل للواقع والنصّ المعصوم؛ كي يتمكنوا من صناعة الخطاب الديني الذي يُصلِح الحياة، بل يحرّك ويصنع الحياة.لقد كان للمؤلِّف السيِّد عبد المطلب رضا دوره البارز في وضع النقاط على الحروف في كلّ محاور البحث بما امتلك من قدرةٍ على تتبّع كلمات صاحب النظريّة (نظرية فقه الأهداف)، مضافاً لمناقشاته العلميّة القويمة؛ ليظهر معالم هذه النظريّة بشكلٍ متينٍ ورائع، عسى أن تنتفع بها الأمّة الإسلاميّة، وتجعلها هدفاً تسعى نحوه؛ وهذا دفع بمركز الهدف للدراسات أن يسجّل قدم السبق في تقديم وعرض هذا التراث للقارئ الكريم راجين رضا الحقّ تعالى.