حين كنت طالبا في مدرسة الحقوق - ببيروت ويعود بنا ذلك نحو ستين سنة إلى الوراء - كانت مادة القانون الدولي الخاص أصعب مادة فهما وحفظا يواجهها الطلبة. ثم مرت عقود من الزمن وأسند إلي تدريس نفس المادة في كلية الحقوق بالرباط خلال ربع قرن تقريبا وكنت ألاحظ عند طلبتي نفس الشعور الذي كان يساورني أنا ورفاقي أمام هذه المادة، وذلك أن القانون...
قراءة الكل
حين كنت طالبا في مدرسة الحقوق - ببيروت ويعود بنا ذلك نحو ستين سنة إلى الوراء - كانت مادة القانون الدولي الخاص أصعب مادة فهما وحفظا يواجهها الطلبة. ثم مرت عقود من الزمن وأسند إلي تدريس نفس المادة في كلية الحقوق بالرباط خلال ربع قرن تقريبا وكنت ألاحظ عند طلبتي نفس الشعور الذي كان يساورني أنا ورفاقي أمام هذه المادة، وذلك أن القانون الدولي الخاص يزداد يوما بعد يوم تعقيدا وتشعبا نظرا لازدياد العلاقات الدولية بين الأفراد سواء من حيث العلاقات المالية والعلاقات غير المالية، ورافق هذا التطور ظهور مجموعة من المصطلحات التي يصعب فهمها حتى على رجل القانون العادي نظرا لازدياد العلاقات الدولية بين الأفراد سواء من حيث العلاقات المالية والعلاقات في المالية، ورافق هذا التطور ظهور مجموعة من المصطلحات التي يصعب فهمها حتى على رجل القانون العادي نظرا لما يخبئه كل مصطلح من مفاهيم وقواعد. وهكذا نجد على سبيل المثال «الإحالة» و«قاعدة الإسناد» و«التنازع الانتقالي» و«التنازع المتحرك» و«الضوابط القانونية» وهي تعابير لكل منها مفهوم خاص تتعلق به قواعد قانونية ونظريات فقهية وأحكام قضائية. ولذلك يجدر القول بأنه ليست دراسة مادة القانون الدولي الخاص مجرد رياضة فكرية يتلذذ بها من أغواهم هذا النوع من الدراسات، بل أنها أيضا مادة كثيرة الاستعمال في معظم العلاقات الفردية التي يتخللها عنصر أجنبي.ومن المعلوم أن الجانب الرئيسي من مادة القانون الدولي الخاص هو «تنازع القوانين» إلى حد أن المادة كلها تحمل هذا الاسم عند بعض الفقهاء وفي بعض البلدان. وموضوع «تنازع القوانين» غزير بالمنازعات الفقهية منذ قديم الزمان. وتكمن الصعوبة في تعيين طريقة لحل التنازع بين القوانين في العلاقات الدولية بين الأفراد في حالة وجود عنصر أجنبي في النزاع يقتضي الاختيار بين قانونين أو أكثر. ومصدر هذه الصعوبة ينحصر في ثلاثة أسباب : الأول الاختلاف بين القوانين في تكييف الرابطة القانونية التي يتعلق بها النزاع والسبب الثاني الاختلاف بين القوانين في مفهوم القانون الذي تعينه قاعدة الاسناد : أهو القانون الجوهري أم قاعدة الاسناد في الدولة المعنية وفي هذا الإطار تعالج نظرية الإحالة التي كثيرا ما يتعثر الطلبة في فهمها.والسبب الثالث يعود إلى تنازع القوانين في الزمان وما يترتب عليه من تنازع انتقالي بين قوانين بين قانونين صدر أحدهما بعد الآخر وهو الموضوع الذي اختاره الدكتور أحمد زوكاغي موضوعا للأطروحة التي تقدم بها لنيل درجة الدكتوراه في الحقوق - فرع القانون الخاص -.فيتتبع تصميم الدراسة نجد أنها تضمنت مقدمة تمهيدية حول مفهوم التنازع الانتقالي في القانون الدولي الخاص وأرجع المؤلف أسباب التنازع إلى ستة أولها تعديل قاعدة الاسناد في قانون القاضي، والثاني تعديل قاعدة الاسناد المقررة في القانون الأجنبي المختص بمقتضى قاعدة الاسناد في قانون القاضي والثالث تعديل القاعدة الجوهرية في القانون المختص، والرابع التنازع المكاني بين قواعد تنازع القوانين من حيث الزمان، والخامس طروء تغيير على ظرف من ظروف الاسناد التي يعتد بها لتحديد قاعدة الاسناد الواجبة التطبيق ويطلق على هذا النوع من التنازع الانتقالي اسم «التنازع المتحرك»، والسبب السادس والأخير تبدل السيادة على الإقليم.وبعد أن أوضح المؤلف مفهوم كل واحد من هذه الأسباب وعززه بالأمثلة الحية المأخوذة غالبا من أحكام قضائية انتهى إلى تخليص تلك الأسباب في نوعين أولهما «التنازع الانتقالي الناشئ عن تغيير في الضوابط القانونية» وهو يشمل الأسباب الأربعة الأولى، والثاني «التنازع الانتقالي الناشئ عن تغيير في الضوابط الموضوعية» وهو يشمل السببين الخامس والسادس.وانطلاقا من هذا التمييز جعل المؤلف النوع الأول عنوان القسم الأول من دراسته والنوع الثاني عنوان القسم الثاني.وقد استعرض المؤلف بالنسبة لكل موضوع نشأته وتطوره تاريخيا وناقش النظريات التي ظهرت بشأنه مدليا بدلوه عند عرض كل نظرية.ولا يسعني أمام هذه الدراسة التي قرأتها بكل إمعان ولذة إلا أن أنوه بالمجهود الكبير الذي بذله الدكتور زوكاغي في سبيل إعدادها الشيء الذي تدل عليه وفرة المراجع المستعملة فعلا والمعلومات الغزيرة من الوضوح في العرض، بأسلوب لغوي سلس وسليم لا تشوبه أية شائبة.وأملي كبير في أن تكون هذه الدراسة باكورة يتبعها الدكتور زوكاغي بأبحاث جديدة تساهم في إثراء الخزانة القانونية المغربية.وأسأل الله أن يوفقه ويكلل أبحاثه المقبلة بالتوفيق.