إن القرآن الكريم حياة هذه الأمة، لا تبتعد عنه لحظة إلا وتبتعد عنها معالم الحياة. وإن حياة لغتنا العربية في هذا الكتاب الكريم، ولا يعرف التاريخ لغة اتصلت حياتها بكتاب مقدس كما تتصل حياة العربية بالقرآن.ولا سبيل إلى فهم حياة هذه الأمة إلا بدرس كتابها ودرس لغتها التي عاشت فيه، ولسنا نعرف درسا لغوياً أصل ولا أعمق من درس يصل بين العر...
قراءة الكل
إن القرآن الكريم حياة هذه الأمة، لا تبتعد عنه لحظة إلا وتبتعد عنها معالم الحياة. وإن حياة لغتنا العربية في هذا الكتاب الكريم، ولا يعرف التاريخ لغة اتصلت حياتها بكتاب مقدس كما تتصل حياة العربية بالقرآن.ولا سبيل إلى فهم حياة هذه الأمة إلا بدرس كتابها ودرس لغتها التي عاشت فيه، ولسنا نعرف درسا لغوياً أصل ولا أعمق من درس يصل بين العربية والقرآن.وليس من ريب في أن القدماء قد قدموا لنا مجهودات عظيمة في الدرس اللغوي للعربية، لكن المصدر الأول الذي صدرت عنه هذه اللغة والذي لا تزال تصدر عنه حياتها هذه الطويلة لما يزل في حاجة إلى بيان.وتلكم محاولة لمثل هذا الدرس، مجرد محاولة لفهم الواقع اللغوي للعربية قبيل الإسلام كما تمثله القراءات القرآنية، وليس من شك في أن القراءات تمثل منهجاً في النقل لا يصل إلى وثاقته علم آخر مهما يكن حتى منهج الحديث.ولكن ماذا نقصد باللهجات العربية؟ هل نقصد ما يعنيه الدارسون المحدثون حين يتصدون لدرس اللهجات "العامية"؟وجلي أننا لا نقصد من بحثنا درساً لعاميات ما قبل الإسلام، ذلك - أولاً - لأننا لا نعرف شيئاً عن هذه العاميات أو لا نكاد نعرف عنها شيئاً، و - ثانياً - لأن عنوان البحث ينفيه، قالقراءات القرآنية لا تمثل شيئاً من العامية، ولعل الأصوب أن نقول إننا ندرس هنا "العناصر" التي تكوّن العربية الفصحى، أو الخصائص اللهجية التي تنتسب إلى قبائل بذاتها ثم دخلت الفصحى وصارت جزءاً منها، أي صار لها مستوى من الفصاحة يقرأ به القرآن وينظم به الشعر.ولقد يقال إنه كان ينبغي ألا يكون عنوان البحث على ما هو عليه حتى يساير هذا الاتجاه الذي بيناه، لكننا آثرنا أن نبقي هذا العنوان كي نقرر هذه الحقيقة، وهي أن درس اللهجات العربية القديمة ليس درساً للعاميات كما يسبق إلى ظن بعض الذين كتبوا عن هذه اللهجات، فالهمز والتسهيل أو الفتح والإمالة مثلا ليسا من العامية في شيء، وإنما هما مستوى من الفصاحة معروف مقرر لدى القدماء الفصحاء.والمنهج الذي اخترناه، منهج لغوي وصفي، لا يميل إلى شيء من التفسير المنطقي او التعليل الفلسفي للظواهر اللغوية، ولعل في هذه "الوصفية" نصيباً من التجوز، إذ نميل في البحث إلى استعمال الظن الغالب حيث لا سبيل إلى شيء من يقين.ولقد أدى بنا هذا المنهج إلى أن ندرس اللهجات العربية دراسة "بيئية" لا دراسة "عنصرية" بمعنى أننا إذا أردنا أن نفهم ظاهرة لغوية تنتسب إلى قبيلة بذاتها فلن يكون فهمنا لها صحيحاً باعتبار أن هذه القبيلة تنتسب إلى عدنان أو إلى قحطان مثلاً، ولكن باعتبارها تعيش في بيئة معينة، ولقد لحظنا أن القبائل التي تعيش حياة تحضر واستقرار تميل إلى طرائق في اللغة تختلف عن تلك التي تميل إليها القبائل البادية، لذلك قمنا بدراسة جغرافية وبشرية لشبه الجزيرة. ثم جمعنا القراءات القرآنية من مظانها، واستخلصنا منها ما غلب على الظن وما أشارت المصادر إلى أنه من اللهجات، ثم صنفنا هذه المادة التصنيف اللغوي الحديث، بأن قسمنا الدرس اللهجي إلى مستويات أربعة صوتية وصرفية ونحوية ودلالية، واجتهدنا في نسبة الظواهر إلى بيئاتها مع استعمال الظن الغالب على ما بينا آنفا.وغني عن البيان أن مثل هذه الأبحاث اللغوية ينبغي أن تتجنب التزيد والتكثر لأننا في مجال "علم" يتصل بالحقائق أو ما يغلب على الظن أنه من الحقائق، ومن ثم خرج البحث على هذه الصورة الموجزة حيث لا مدعاة إلى شيء من إطناب .ثم ختمنا البحث بأطلس لغوي اعتبرناه نتائج البحث، جمعنا فيه العناصر اللهجية موزعة على أماكنها من شبه الجزيرة، ولقد نجرؤ على الظن بأنه أول محاولة في الدرس العربي. والذي لا شك فيه أن صعوبات كثيرة قد واجهتنا في البحث، لعل أولها وأهمها ذلك البعد الزمني بيننا وبين اللهجات القديمة، فدارس اللهجة ينبغي أن يكون معاصراً للهجة التي يدرسها، أو على الأقل ينبغي أن تكون اللهجة "مسجلة" منطوقة، أما وأن اللهجات تبتعد عنا حقبة من الزمن تزيد على خمسة عشرة قرناً، فإن محاولة الرصد والتحليل يكتنفها كثير من المخاطر.ينضاف إلى ذلك أن المصادر القديمة في اللهجات ضنينة بالأخبار، وهي مع ذلك قليلة، وأكثر هذا القليل مخطوط، ولا يغيب عن أحد ما في معاناة النص المخطوط من المشقة والجهد.ثم إن التاريخ العام لشبه الجزيرة قبيل الإسلام غامض شديد الغموض، وتاريخها اللغوي أكثر غموضاً، لأن هذا الكتاب - مع أنه المصدر الذي تصدر عنه حياتنا كلها - لم يجد بعد العناية من التنقيب العلمي المحقق، فظل هذا التاريخ أساطير أو كالأساطير. والدراسات العلمية للواقع اللغوي الحديث في شبه الجزيرة معدومة بيننا، والعجيب أن الذين يقومون بها الآن هم الذين يحتكرون استغلال الزيت هناك.ومع كل هذه الصعوبات، لم نحجم عن المحاولة، لأن هذه الصعوبات ينبغي أن تواجه، وينبغي أن تجد الحلول العلمية، ونحن ندرك أن الذي قدمناه قد يكون من الحقائق لكنه ليس الكلمة الأخيرة في الموضوع، بل سيظل معلقاً رهن الدرس المنقب وما يأتي به من جديد.