المنشورات مزدوجة اللغة هي مؤلفات مرايا تضع أمام قارئها ومنذ البداية، النص وترجمته، الأصل ونسخته، وجها لوجه، معترفة بشفافية النسخة وإحالتها الضرورية الدائمة إلى النص الأصلي، طالبة من القارئ أن ينتج نصا ثالثا ويولده بمقارنة النصين وعقد "قران" بينهما. تقديم متاهات الترجمة عبد الفتاح كيليطو سألني مرة أحد الطلبة عن أحسن ترجمة فرنسية ...
قراءة الكل
المنشورات مزدوجة اللغة هي مؤلفات مرايا تضع أمام قارئها ومنذ البداية، النص وترجمته، الأصل ونسخته، وجها لوجه، معترفة بشفافية النسخة وإحالتها الضرورية الدائمة إلى النص الأصلي، طالبة من القارئ أن ينتج نصا ثالثا ويولده بمقارنة النصين وعقد "قران" بينهما. تقديم متاهات الترجمة عبد الفتاح كيليطو سألني مرة أحد الطلبة عن أحسن ترجمة فرنسية ل ألف ليلة وليلة . كان يعلم،بصفة غامضة، أن هذا الكتاب نقل عدة مرات إلى الفرنسية، ولكنه كان يود اختصار المجهود وتجنب إضاعة الوقت في قراءة ترجمات قد تكون غير أمنية أو مشوهة. إضافة إلى ذلك، ما معنى أن تقرأ ترجمات متعددة لكتاب واحد؟ أجبته بأن عليه أن يقرأ كل الترجمات، بمختلف اللغات، وأمام دهشته رويت له أن ذلك ما قمت به، على قدر استطاعتي، عندما كنت أهيىء العين والإبرة. لقد استفدت كثيرا من عدم وفاء العديد من الترجمات لحكايات شهرزاد، وربما لم أكن لأنجز دراستي المشار إليها، أو على الأقل لم أكن لأنجزها كما هي، لولا الحرص على مقارنة مستمرة بين النص العربي والمحاولات التي بذلت لترجمته، وان كان اهتمامي انصب أساسا على النص الأصلي، أو هكذا خيل لي. ومع ذلك ظلت استفادتي من الترجمات حيية محتشمة ومكتنفة بشيء من الريبة، فمن ذا الذي لا يثني على الأمانة،على الإخلاص للنص؟ ومن ذا الذي لا يصب حام غضبه على الغش والخداع والمراوغة؟ كنت أعتبر ما قام به المترجمون انحرافا عن الطبيعة وضلالا مبينا، وفي أحسن الأحوال كنت أحسبه عملا أدبيا متطفلا وعالة على غيره. الآن وقد قرأت في الترجمة لعبد السلام بنعبد العالي، أجدني أنظر إلى الأمور بمنظار آخر. وهذا ما يحدث عادة مع الدراسات الجادة والمبدعة،فهي تغير نظرتنا إلى الأشياء بطرحها أسئلة جديدة قد تكون مخالفة تماما لمسلماتنا ولما تعودنا على اعتقاده. الآن تبدو لي كل ترجمان ألف ليلة وليلة، حتى تلك التي تتصرف في النص بصفة مقيتة، شيئا ثمينا لا يستغنى عنه. إنها تثري الكتاب وتضيف إليه دلالات ومعاني وصورا لا ترد في صيغته الأصلية. وقد نتصور ترجمة له تكون نهائية (ومن ذا الذي لا يتمناها؟). ولكنها ستكون حتما علاقة على انعدام الاهتمام به، وإيذانا بأفوله وموته. يؤكد عبد السلام بنعبد العالي أن الترجمة "قضية الفلسفة" وموضوعها الأساس. وفعلا يجد كل فيلسوف نفس متنقلا ذهابا وإيابا بين لغتين (على الأقل)، حتى في حالة عدم إلمامه بلسان آخر غير لسانه. هل يمكن تصور كتاب في الفلسفة، مهما كانت لغته، لا يتضمن كلمات أجنبية؟ وفي هذا السياق، ليس من الصدفة أن يتحدث الجاحظ، في كتاب الحيوان، عن"الترجمان" في معرض حديثه عن الفلسفة اليونانية. وليس من الصدفة أيضا أن نجد اليوم من يقرأ الفلسفة الفرنسية كترجمة للفلسفة الألمانية. ومن المفارقات التي يشير إليها عند السلام بنعبد العالي أن القراء الألمان يلوذون، لفهم فينومولوجيا الروح لهيغل، بالترجمة الفرنسية التي قام بها هيبوليت لهذا الكتاب. إن تاريخ الفلسفة هو في العمق تاريخ الترجمة، وقد تكتسي الترجمة مظهر الشرح والتعليق كما هو الشأن عند ابن رشد. أن تدرس أرسطو معناه أن تشرحه، أن تحوله من لغة إلى لغة، من خطاب إلى خطاب، وهذا التحويل هو ما يوفر للفلسفة حيويتها ونشاطها. "فالترجمة، يقول بنعد العالي، هي التي تنفخ الحياة في النصوص وتنقلها من ثقافة إلى أخرى. والنص لا يحيا إلا لأنه قابل للترجمة، وغير قابل للترجمة،في الوقت ذاته". وليست مسؤولية التحويل الذي يتعرض لها النص ملقاة على المترجم وحده، بل إن اللغة تتحمل القسط الأوفر منها، فاللغة التي يترجم إليها النص لها طقوسها وشروطها الخاصة، بحيث إنها تقحم في النص مسائل وقضايا لا تكون واردة في شكله الأصلي، وإذا بالمترجم مرغم على نقل ما لا يكون راغبا في نقله. وأحيانا ترفض اللغة أي تعاون معه وتتسلى بعجزه وشلل حركته: فمن يستطيع مثلا، أن يترجم إلى الفرنسية "أما بعد"، "وليت شعري"؟ بل من يستطيع أن يترجم "أما بعد" إلى العربية بالذات؟ ذلك أن مسألة الترجمة واردة حتى داخل اللغة نفسها. يتساءل بنعبد العالي: "هل هناك وحدة حتى في لغة ما بعينها؟" ويجيب: " كلنا يعيش لغات في اللغة". إننا على سبيل المثال نقرأ ألف ليلة وليلة وفي طبعات عربية تعود إلى طبيعة بولاق، ولا ننتبه إلى أن هذه الطبعة "ترجمة" فصيحة لنص مكتوب بالدارجة. وقد كان علينا انتظار طبعة محسن مهدي لنتأكد أخيرا من هذه الحقيقة. فالأصل العربي ليس بالوضوح الذي قد يتبادر إلى الذهن، هذا في حال ما إذا جاز لنا أن نتحدث عن أصل ل ألف ليلة وليلة، وهو أمر مبني على وهم أمنية جميلة عابرة. تتميز دراسة عبد السلام بنعبد العالي بكونها أول دراسة فلسفية أنجزت عن الترجمة في الثقافة العربية المعاصرة. فمن خلال الترجمة يعيد النظر في قضايا فلسفية جوهرية كالهوية والاختلاف، الأصل والنسخة، الوحدة والتعدد، الأنا والآخر... وأحيانا يلجأ إلى الإشارة والتلميح، كأن يلاحظ أن "أزهى عصور الفكر غالبا ما تقترن بازدهار حركة الترجمة"، فيتوجه القارىء بفكره توا إلى ضآلة الترجمة عندنا وضمورها، ويتأمل بحسرة ساحتنا الثقافية التي لا يستطيع أحد وصفها بالازدهار. كم يا ترى من الروايات نقلنا إلى العربية منذ الاستقلال؟ إن مقياس الترجمة، ومع الأسف الشديد،مقياس لا يخطىء. من الكتاب من يشعرك من كلماته الأولى أنه يخاطب جماعة ويتكلم باسمها. ليست هذه حال عبد السلام بنعبد العالي الذي يتحدث إليك بصوت ذي نبرة خاصة وطابع فريد، ويجعلك تتخيل أنه يخاطبك شخصيا ويكتب من أجلك. وفي ثنايا أسلوبه الهادىء الرصين تحس سخرية مكتومة ومعاناة خفية مستترة، معاناة الفيلسوف الذي يخالف الأفكار الجاهزة ويطرق المواضيع الأساسية . المنشورات مزدوجة اللغة هي مؤلفات مرايا تضع أمام قارئها ومنذ البداية، النص وترجمته، الأصل ونسخته، وجها لوجه، معترفة بشفافية النسخة وإحالتها الضرورية الدائمة إلى النص الأصلي، طالبة من القارئ أن ينتج نصا ثالثا ويولده بمقارنة النصين وعقد "قران" بينهما.