لئن كان أرسطو قد احتل مركز السيادة في الفكر العربي في أطواره الأولى إلى أن كاد يصير وحده صاحب التأثير فيه في القرنين الرابع والخامس، فإنه لم يكن ثمة ما يدعو إلى استمرار هذه السيادة مدى طويلاً: سواء من ناحية مذهبه، ومن جانب الذين تلقوه. فروح مذهبه كانت بعيدة عن إشباع نوازع الروح الحضارية العربية، لأن روح هذا المذهب ذات طابع يونان...
قراءة الكل
لئن كان أرسطو قد احتل مركز السيادة في الفكر العربي في أطواره الأولى إلى أن كاد يصير وحده صاحب التأثير فيه في القرنين الرابع والخامس، فإنه لم يكن ثمة ما يدعو إلى استمرار هذه السيادة مدى طويلاً: سواء من ناحية مذهبه، ومن جانب الذين تلقوه. فروح مذهبه كانت بعيدة عن إشباع نوازع الروح الحضارية العربية، لأن روح هذا المذهب ذات طابع يوناني خالص، فكان في الواقع اقرب تمثيلاً للروح اليونانية من أفلاطون الذي سرى في مذهبه دم شرقي أو شبه شرقي. ومن هنا كان أفلاطون ذا رحمٍ ماسة بالفكر الشرقي، ومنه الروح العربية. وأولئك الذين تلقوا التراث الأرسطي بشراحه كانوا بروحهم بعيدين عن الروح اليونانية، فلم يطلبوا روح أرسطو حين طلبوه بقدر ما تعلقوا بنتائج فكره المنطقي العلمي، وآية ذلك أن أرسطو نفسه لم يستطع الظفر بحق المواطن في الحضارة العربية إلا بعد أن طعّم بدماء أفلاطونية وأفلوطينية. والشاهد على هذا أنه في لحظة اليقظة الأولى للروح، حيث يكون ثمة دافع إلى الابتكار فإن أفلاطون الملهم المهيمن في الفكر العربي. وذاك تمثل من أبي بكر محمد بن زكريا الرازي أعظم شخصية فكرية في الحضارة العربية كلها جرأة وأصالة. حيث تجلت عنده إرهاصات التيار الأفلاطوني، إلا أنه، التيار الأفلاطوني الحقيقي هو ذاك الذي بدأه السهروردي المقتول في القرن السادس الهجري والذي استمر حتى بلغ أوجه النهائي عند ملاّ صدرا شيرازي المعروف بالصدر (أو صدر الدين) الشيرازي، المتوفي سنة 1050هـ/1640م والداماد محمد بن باقر بن شمس الدين الأستراباذي، المتوفي سنة 1040هـ/1630م.وفي هذا الكتاب رسالة يتناول المؤلف من خلالها المثل العقلية الأفلاطونية إلا أن هذا المؤلف مجهول. فحاجي خليفة قد ذكر تلك الرسالة دون ذكر اسم مؤلفها واكتفى بأن قال: "رسالة في المثل الأفلاطونية، لبعض العلماء، ألفها لبعض الوزراء (قطب الدين الأصفهاني): أولها الحمد لله المتلألئ من وراء سرادقات قدسه إلخ. رتبها على فصول ثلاثة وذكر ما هو مبني عليها من التوحيد المشهور عن بعض الصوفية". وتاريخ تأليف هذه الرسالة يقع ما بين سنة 730هـ وسنة 740هـ. ويتضح من قراءة الرسالة ثقافة المؤلف الواضحة، وأنه كان ذو حظ عظيم من الثقافة الفلسفة والصوفية، وبخاصة المنطق، وله قدرة فائقة على إثارة المشاكل والجواب عنها. ومنهجه ديالكتيكي قوي في المعارضة. وطريقته في الحجاج تكشف عن وضوح ذهن وتعمق للمسائل بما لا يوجد لهما نظير عند أي مؤلف فلسفي إسلامي آخر، وأن منهجه لقريب الشبه بمنهج أرسطو في إثارة الشكوك، ثم الجواب عنها.والمؤلف إلى ذلك أفلاطوني النزعة من غير شك، لكنها ليست أفلاطونية إشراقية من نوع أفلاطونية السهروردي ولا أفلاطونية تهويلية من قبيل أفلاطونية إشراقية من قبيل أفلاطونية أفلوطين وأبرقلس، فإنه يقف من هذه التفسيرات الأفلاطونية موقفاً مستقلاً كما سيلحظ القارئ عند قراءته لهذه الرسالة وبالتحديد عند نقده للسهروردي، وكذلك في أكثر المواضع، وإنما هي أفلاطونية من نوع خاص. إلى جانب ذلك فإنه يلوح أن المؤلف قد تأثر خصوصاً بالأفكار الإشراقية كما عرضها السهروردي، وبالاتجاه الصوفي عند ابن عربي، وهو يشعر نحوه بتبجيل ظاهر، ويلوح أنه كان على شعور بمشاركة وجدانية قوية بينه وبين ابن عربي خاصة ومدرسته عامة، إلا أنه لا يمكن اعتباره من أتباعه، لأنه كان على درجة من الاستقلال الفكري يعسر معها إضافته إلى مدرسةٍ بالذات: سهروردية، أو أكبرية (نسبة إلى الشيخ محيي الدين بن عربي).ويشير المحقق لهذه الرسالة عبد الرحمن بدوي بأنه يوجد لها عدّة مخطوطات عرف منها حتى عهده 3 في إستانبول و4 في القاهرة. تشمل المخطوطات تلك رسائل ثلاث منها الرسالة التي هي مدار التحقيق في هذا الكتاب والتي جاءت تحت عنوان "في المثل العقلية الأفلاطونية والمعلقة الخيالية وما يظن أنه مبنيّ عليها من التوحيد المشهور عن بعض الصوفية". وقد حرص المحقق على إيراد ثبت تفصيلي بالمخطوطات وما ورد منها كما أورد بعضاً من نصوصها المتناثرة، حتى ينتفع بها القارئ، دون الاقتصار على ما يتصل بالرسالة الأساسية التي تم تحقيقها.