كَانَ الفَرْدُ الشَخْصَ القَانُونِيَّ الْوَحِيدَ الَّذِي يَتَمَتَّعُ بالحُقُوقِ وَيَحْتَمِل الالتِزَامات. وَبعد تَطَوُّرِ مَفْهُومِ الدَّوْلَةِ، وَقِيَامِهَا بِنَشَاطاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَظُهُور الْمُؤَسَّسَات الاقْتِصَادِيَّةِ وَالإدَارِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، الَّتِي تَقُومُ بِأَعْمَالٍ مُقَاربةٍ لما يَقُومُ بِهَا الإنْسَانُ...
قراءة الكل
كَانَ الفَرْدُ الشَخْصَ القَانُونِيَّ الْوَحِيدَ الَّذِي يَتَمَتَّعُ بالحُقُوقِ وَيَحْتَمِل الالتِزَامات. وَبعد تَطَوُّرِ مَفْهُومِ الدَّوْلَةِ، وَقِيَامِهَا بِنَشَاطاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَظُهُور الْمُؤَسَّسَات الاقْتِصَادِيَّةِ وَالإدَارِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، الَّتِي تَقُومُ بِأَعْمَالٍ مُقَاربةٍ لما يَقُومُ بِهَا الإنْسَانُ. وَمِنْ أجلِ أَنْ تُمَارِسَ هَذِهِ الْمُؤَسَّسَات أنْشِطتهَا بِالشَّكْلِ الْمَطْلُوبِ اعْتُرِفَ لَهَا بِحُقُوقِ الشَخْصيَّةِ الْعَادِيَّةِ. وَأُطْلِق عَلَى هَذِهِ الشَخْصيَّةِ بالشَخْصيَّةِ القَانُونِيَّةِ المَعْنَوِيَّةِ، أَوِ الحْكمِيَّةِ، أَوِ الاعْتِبَارِيَّةِ. وَأَصْبَحَ لَهَا أَنْ تُمَارِسَ الأعْمَالَ وَالتَّصَرُّفَات الَّتِي يُمَارِسهَا الأشْخَاص. فَاعْتُرِفَ لَهَا بِحَقِّ التَمَلكِ وَالبَيعِ وَالشِرَاءِ وَالعَدِيدِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ القَانُونِيَّةِ الَّتِي تَتَلاءمُ مَعَ طَبِيعَةِ عَمَلها. وَمُنَحتْ حَقّ التَقَاضِي لحِمَايَةِ مَصَالِحِهَا. وأدَى تَطَوُّرُ الْقَانُون الدُّوَلِي الْعَام، إِلَى ظُهُور تجمعَات دُوَلِيَّة أُطْلِق عَلَيْهَا بالمُنَظَّمَات الدُّوَلِيَّة، وَهِيَ مُؤَسَّسَات دُوَلِيَّة تَضُمُّ عِدَّةَ دُوَلٍ مُسْتَقِلَّة. وَأدى هَذَا الوَضع إِلَى ضَرُورَةِ مَنْح هَذِهِ الْمُؤَسَّسَاتِ مَرْكَزاً قَانُونِياً يَسْمَح لَهَا تَمَلك الْمَوَادِّ المَنْقُولَةِ وَغير المَنْقُولَة، وَإجرَاء التَّصَرُّفَاتَ القَانُونِيَّة، وَالتَقَاضي أَمَام الَمَحَاكم الدُّوَلِيَّة. لِهَذَا فَقَدْ منحت هَذِهِ المُنَظَّمَات شَخْصيَّة قَانُونِيَّة دُوَلِيَّةً خَاصَّةً، إِلَى جَانِبِ الشَخْصيَّة القَانُونِيَّة الَّتِي تَمَتع بِهَا الدُّوَلُ الأعْضَاءُ فِي المُنَظّمَةِ. كَمَا شَهدَ الْقَانُون الدُّوَلِيّ الْمُعَاصِر تطوراً كَبِيراً فِي مَنْح الشَخْصيَّة القَانُونِيَّة للعَدِيدِ مِنَ الْمُؤَسَّسَاتِ الدُّوَلِيَّةِ. وبَعْدَ ظُهُور العَدِيد مِنَ الدُّوَلِ، كَانَ لابُدَ لِهَذِهِ الدُّوَلِ أَنْ تتمَتع بشَخْصيَّة قَانُونِيَّة دُوَلِيَّة مُعَيَّنَة، تتمَتع بُمُوجبهَا بِالعَدِيدِ مِنَ الحُقُوق، وَمِنْ ذَلِكَ المُنَظَّمَات الدُّوَلِيَّة وَالْفَاتِيكَان وَبَعْض الأفْرَاد الدُّوَليَّينَ. وَقَدْ عَرَف الإسْلامُ الشَخْصيَّةَ القَانُونِيَّةَ الدُّوَلِيَّةَ. وَأشَارَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَالأحَادِيثُ الشَرِيفَةُ إِلَى مُخَاطَبَةِ المَمَالكِ وَالإمارَاتِ وَالقَبَائِل. وَخَاطبَ الأمَمَ وَالأقْوَامَ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ عُزُوفُ الْفُقَهَاءِ المُسْلِمينَ عَنْ دِرَاسَةِ الشَخْصيَّة القَانُونِيَّة الدُّوَلِيَّةِ لِهَذِهِ الْمُؤَسَّسَاتِ الدُّوَلِيَّة، ذَلِكَ أَنّ مَفْهُوم الشَخْصيَّة القَانُونِيَّة الدُّوَلِيَّةِ لَمْ تَكُنْ مُشْكِلَة عِنْدَ المُسْلِمِينَ بقدر مَا هِيَ مُشْكِلَة فِي الْقَانُونِ الدُّوَلِيِّ الْمُعَاصِرِ، الَّذِي يُميزُ بَيْنَ حُقُوق الفَرْدِ وَحُقُوق الدَّوْلَة، بَيْنَمَا يَنعَدمُ هَذَا التَّمْيِيز فِي الشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ، فَالأمَمُ وَالأقْوَامُ وَالدُوَلُ وَالقَبَائِل لَهَا مِنَ الحُقُوق مَا للفَردِ، إِلا مَا اخْتَص بِهِ الفَرْد بِصفَتهِ هَذِهِ، وَإِنْ لَمْ يُطْلق الْفُقَهَاءُ المُسْلِمُونَ مُصْطَلَح الشَخْصيَّة القَانُونِيَّة. لِهَذَا فَقَدْ اخْترنَا دِرَاسَة الشَخْصيَّة القَانُونِيَّة الدُوَلِيَّة فِي الإسْلام، مستعينين بِمُصْطَلَحَات حَدِيثَة لِتَكُون أقْرَبَ إِلَى ذِهنِ القَارئ الْكَرِيم، وَمَا جَرَى عَلَيْهِ العَمَل القَانُونِيّ فِي الْمُعَاهَدِ وَالكُليَاتِ، دُونَ أَنْ نَبتَعد عَنِ المُصْطَلَحَات الْمُسْتَعْمَلَة فِي الشَّرِيعَة الإسْلامِيَّةِ، لنُثْبتَ بِالدَليلِ العَمَلِي عُمقَ الشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّة وَقْدرَتهَا عَلَى تَنظِيمِ أدق النُّظُمِ القَانُونِيَّة الَّتِي لَمْ يَتوصلْ إليهَا الْقَانُونُ الْمُعَاصِرُ. وسَنَتنَاول دِرَاسَة الشَخْصيَّة القَانُونِيَّة لِلدَّوْلَة وَنَتنَاولُ دَوَلَةَ الْمَدِينَةِ وَالخِلافَة الإسْلامِيَّة فِي جَمِيعِ مرَاحلَهَا، وَحُقُوق وَواجبات الدُّوَل، الأشْخَاص القَانُونِيَّة الدُّوَلِيَّة مِنْ غَيْر الدُّوَل،