كان الرجل يحلم خلف الجدار. لقد استلقى تحت شجرة وارفة الظلال في ظهيرة ذلك اليوم وأغمض عينيه بعد تعب قصف له ظهره. كان يحلم آخر الأسبوع، سيحمل بضع ليرات ادّخرها من العمل، ويذهب بها إلى زوجته وولده الرضيع اللذين تركهما عند أبيه في القرية. كان يحلم أن يشتري للصغير حذاءً مطاطياً، وأن يحمل لزوجته كنزة صفراء تقيها البرد القارس. كان يحلم...
قراءة الكل
كان الرجل يحلم خلف الجدار. لقد استلقى تحت شجرة وارفة الظلال في ظهيرة ذلك اليوم وأغمض عينيه بعد تعب قصف له ظهره. كان يحلم آخر الأسبوع، سيحمل بضع ليرات ادّخرها من العمل، ويذهب بها إلى زوجته وولده الرضيع اللذين تركهما عند أبيه في القرية. كان يحلم أن يشتري للصغير حذاءً مطاطياً، وأن يحمل لزوجته كنزة صفراء تقيها البرد القارس. كان يحلم مختبئاً تحت تلك الشجرة عن العالم كله. الله وحده يعرف أنه هنا. الأرض ندية والشمس الدافئة تدخل ملابسه فيحس بلذة وحذر. كان يحلم لو كانت له هذه الأرض. لو كانت له بناية، لو كانت له بضعة أشجار من الزيتون، كان يحلم مختبئاً في داخل نفسه، في داخل أحلامه. وكان يحب لو يتحقق حلم من أحلامه. وكان شريط الأحلام يتوالى على ذاكرته ملوناً كثير العذوبة والصفاء. فجأة، انحرفت شاحنة ضخمة عن الطريق العام ليتلافى سائقها دهس رجل قفز بغتة أمام عينيه، واقتحمت الجدار الذي هدمته دفعة واحدة، فتهاوت حجارته الثقيلة لتسحق الجسد النائم سحقاً. لكن أحلام الرجل استمرت في التدفق".حين اختار المستشرقون الألمان، وعلى رأسهم باخمن، مجموعة قصص ياسين رفاعية القصيرة هذه "العصافير"، لدراستها ومناقشتها وكشف نواحي الإبداع فيها، كانوا يدركون مسبقاً أهميتا وقيمتها الفعلية على صعيد القصص القصيرة التي تغزو العالم الأدبي وتجرف معها الأشكال الإبداعية الأخرى، وفي مقدمتا الرواية الطويلة. فـ"العصافير" مجموعة قصصية، تجمع إليها عدة لوحات، ترافق الطفولة كما ترافق الشعر. لكنها مهما غربت تبقى قراءة لكاتبها بحجم النشر والعذاب والاضطهاد، لتحكي لنا في إحدى قصصها عن "رجل يحلم" في الطريق لإدخار بضع ليرات يذهب بها إلى زوجته وولده الرضيع، وعن "ولد" كان نجمة في الليل، عيناه سماء ووجه أرض البشر. فهذا التداخل الشاعري الذي يتركه ياسين رفاعية في لغته، هو تداخل الأشكال التعبيرة بعضها ببعض. هنا تراه يكتب قصيدة حلمية دافئة؛ هناك ينسلّ وراء نثرية مطلقة، هناك يجمع الشعر إلى النثر خالقاً بنهم شديد تداعي الحالات التعبيرية المعقدة.