في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي حدث أول لقاء مباشر بين المسلمين في الشرق والأوروبيين، لما غزا نابليون مصر سنة 1798م، وجلب معه المطبعة، وبعض مقتنيات الحضارة الأوروبية الحديثة، فضلاً عن مجموعة من الخبراء، ثم تلا ذلك بعثُ محمد علي باشا لجماعة من الطلاب المصريين إلى فرنسا في سنة 1826م، وبعد أن التحق بهم آخرون، فكانت أكبر بعثة درا...
قراءة الكل
في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي حدث أول لقاء مباشر بين المسلمين في الشرق والأوروبيين، لما غزا نابليون مصر سنة 1798م، وجلب معه المطبعة، وبعض مقتنيات الحضارة الأوروبية الحديثة، فضلاً عن مجموعة من الخبراء، ثم تلا ذلك بعثُ محمد علي باشا لجماعة من الطلاب المصريين إلى فرنسا في سنة 1826م، وبعد أن التحق بهم آخرون، فكانت أكبر بعثة دراسية توفدها مصر إلى أوروبا حينذاك. وقد لعب أفرادها بعد تأهيلهم العلمي دوراً رائداً في بناء الدولة المصرية، غير أن الدور الأهم، هو الذي لعبه أحد الأفراد، والذي لم يكن أول الأمر طالباً في البعثة، وإنما كان مرشداً أو إماماً دينياً للبعثة، وهو الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي شرع بالدراسة فور وصوله، وتعلم اللغة الفرنسية، وكان يهدف إلى ترجمة العلوم إلى العربية، وبعد عودته إلى مصر سنة 1831 بادر رفاعة لترجمة مجموعة من الكتب، وبموازاتها كتب رحلته وانطباعاته ووعيه للحضارة الغربية، ومثلما حدث في مصر فقد سبق ذلك لقاء المسلمين الأتراك بالفكر الأوروبي، وقارنه في النصف الأول من القرن التاسع عشر وتعرف المسلمين في شبه القارة الهندية على أوروبا وبعض معارفها.واتسم تعرف النخبة في العالم الإسلامي على أوروبا آنذاك بالانبهار والذهول، فمثلاً كان السير سيد أحمد خان يدعو المسلمين في الهند إلى الانخراط في الحضارة الغربية، وبغية تحقيق ذلك أصدر مجلة "تهذيب الأخلاق" كما أنشأ مجمعاً علمياً للترجمة والتأليف، وأشاعت آراءه ونظراته التأولية للمفاهيم الإسلامية، عاصفة من الجدل والمناظرات، أيقظت التفكير الساكن، وأقحمت العقل في فضاء قلق مضطرب. فانبرى للرد على آرائه السيد أكبر حسين الإله أبادي، والسيد جمال الدين الحسيني المعروف بالأفغاني وغيرهم، وقد عملت آراء محمد خان وآراء غيره من المفكرين الذين ظهروا في تركيا وإيران ومصر، والمشرق العربي، على تأجيج قلق عقائدي ونزعات ارتياب، انبثقت عنها أسئلة حائرة وإشكالات متنوعة، مهدت السبيل لبعث آراء وأفكار جديدة، لم يألفها عالمنا في عصور الانحطاط. ويمكن بالتالي رصد عدة مستويات للفكر الإسلامي المنجز منذ الطهطاوي حتى الآن، فقد اتسم هذا الفكر في مرحلته الأولى بنزعة تبريرية، وطبعت آثار الدارسين مقارنات واسعة بين قضايا التراث ومعطيات العلوم الحديثة، بهدف ترسيخ الانتماء للأمة وميراثها.ولم تتجاوز دائرة المهتمين بهذا الفكر نخبة ضئيلة من المستنيرين، الذين تخرجوا في الحواضر العلمية التقليدية، وتعرفوا على النمط الجديد للعلوم الغربية، غير أن الفكر الإسلامي الحديث سرعان ما تخطى تلك الدائرة المحدودة، فأخذ ينتشر بين الناس؛ واتخذ الخطاب الإسلامي طابع التثقيف الجماهيري العام، فانتقل الفكر من مشاغله النظرية وتجسّد في حركة تُجنِّد أفواجاً من الشباب، وتحرص على تربيتهم وتأهيلهم. وفي هذا السياق أنجز الفكر الإسلامي محاولات تنظيرية، تتفاوت درجاتها، لكن هذا الفكر دخل مع نماذجها الرائدة مرحلة جديدة، مثلما نلاحظ في أعمال محمد إقبال ومحمد عبد الله درّاز، والطباطبائي، والسيد محمد باقر الصدر وغيرهم. وفي حقبة لاحقة عززت هذه النماذج الرائدة جهود هامة، تمثلت بإعداد بحوث أكاديمية في مختلف قضايا الفكر الإسلامي في الجامعات. غير أن مسار الفكر الإسلامي الحديث ظل يفتقر للدراسات التي تتناول تاريخ تطوره، وتجيء دراسة الباحث "زكي الميلاد" لتؤرخ لنشأة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، وتسعى لاقتراح تحقيب لمراحله، وتستعرض أبرز مكاسبه، وتوثِّق طائفة من أشهر مؤلفات الإسلاميين في المائة عام الأخيرة. ونحن نقف على أعتاب قرن جديد، بوسعنا القول إن كتاب "الفكر الإسلامي: مساراته وتطوراته المعاصرة" يقدم رؤية أولية لتقويم الأداء الفكري للمسلمين في القرن العشرين، من منظور يهتم باكتشاف المزايا وبيان الإنجازات، قبل تشخيص المنزلقات وتعداد العيوب والثغرات.