احتلت الفترة الممتدة بين الغزو الفرنسي لمصر وسقوط تجربة محمد علي، محطة تاريخية كثيفة لجهة ما انطوت عليه من تطورات ذات طابع استراتيجي غطت شتى جوانب حقل الصراع بين الدولة العثمانية وبين سياسات الدول الأوربية. فما تكشفت عنه وقائع الصراع المختلفة من أبعاد يتيح التحقق من العديد من المقولات التأسيسية التي حكمت الفكر الغربي في مقاربته ...
قراءة الكل
احتلت الفترة الممتدة بين الغزو الفرنسي لمصر وسقوط تجربة محمد علي، محطة تاريخية كثيفة لجهة ما انطوت عليه من تطورات ذات طابع استراتيجي غطت شتى جوانب حقل الصراع بين الدولة العثمانية وبين سياسات الدول الأوربية. فما تكشفت عنه وقائع الصراع المختلفة من أبعاد يتيح التحقق من العديد من المقولات التأسيسية التي حكمت الفكر الغربي في مقاربته لشتى المسائل التي تفرعت عن واقع الصراع هذا. تثبت مجريات الحملة الاستعمارية في المرحلة الأولى، سواء فيما اختطته لنفسها من أهداف أو فيما توسلته من سياسات اقتصادية وسياسية وثقافية، فساد موضوعه "الرسالة التنويرية". فلغة التنوير والتحديث التي طورتها الآلة الثقافية الفرنسية، ليست إلا حجاباً أيديولوجياً الغرض منه تسويغ وتبرير الأهداف الاستعمارية الكلاسيكية للحملة. بالمقابل أن تتبعاً دقيقاً لآليات المواجهة التي صاغتها دورة الاجتماع العثماني، أثبت قدرة هذا المجتمع على تطوير دينامياته التاريخية الخاصة بغية تعطيل مفاعيل السياسات الاستعمارية واستدراك واقع الاختلال في ميزان القوى عن طريق إطلاق ديناميات التجديد والتحديث ذات الطابع الاستقلالي.فقد استطاعت دورة الاجتماع العثماني وانطلاقاً مما انطوت عليه من إمكانيات سياسية واقتصادية أن تزاوج بين ديناميتين تاريخيتين داخلتين. تمثلت الدينامية الأولى فيما انطوت عليه مقاومات وثورات المجتمع الأهلي من سياسات مواجهة كان لها أثراً مركزياً في أحداث تصدعات أساسية، في بنيان السياسات الاستعمارية الفرنسية. وتمثلت الدينامية التاريخية الثانية فيما أرساه محمد علي من مشاريع تجديدية مختلفة بغية كسر مفاعيل الغزو الغربي، وتجديد البنيان السياسي والاقتصادي للدولة العثمانية. ففي كلا المستويين أثبتت مسارات المواجهة فساد مقولة "الركود الشرقي". التي طالما شكلت حجر الزاوية في بناء أنظمة معرفية وأيديولوجية مسوغة للسياسات الاستعمارية الأوروبية. ورغم ما انطوت عليه دينامية بناء الدولة التحديثية من عمليات انفتاح واسعة على معارف وفنون النظم الغربية، فقد بقي التوجه الاستراتيجي للدول الغربية محكوماً بسياسة إجهاض هذه التجربة باعتبار بعدها الاستقلالي واندراجها ضمن الإطار العام لمدار الاجتماع الإسلامي. فسياسة الإجهاز على تجربة محمد علي تندرج تحت عنوان التصدي لأية محاولة تجريدية داخل دورة الاجتماع الإسلامي تسعى إلى تطوير بناها الذاتية انطلاقاً مما تملكه من مقومات خاصة، وذلك بهدف العمل على تفكيك توازنات وديناميات المجتمع الداخلية وتأمين الشروط المناسبة لإدخال المجتمع المحلي ضمن دائرة الاستعباد والاستتباع. لذا، فإن اندفاعة القوى الاستعمارية الغربية تكون باتجاه العمل على توظيف كافة نقاط الاختلال الداخلية، سواء اتخذت أشكالاً تاريخية تقليدية أو حديثة، بغية إرساء أبنية نظم الاستتباع.ويقول المؤلف بأن التأكيد على فساد المقولات التأسيسية لخطاب الحداثة في المراكز الاستعمارية وامتداداته اللاحقة داخل المجال العربي الإسلامي في المراحل التي تلت نظام الاستتباع لا يستكمل أبعاد الموضوع، لذا فقد رأى ضرورة الانفعال إلى دائرة أخرى من التساؤلات المتعلقة بمآزق تجارب التحديث الاستقلالي، التي أظهرتها وقائع عجز المشروع التجديدي لمحمد علي عن توفير الشروط الكافية لامتلاك القدرة على التصدي لمفاعيل السياسات الاستعمارية التي طرحتها النظم الغربية الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر. ويتموضع سؤال المؤلف هذا ضمن دائرة التجاذبات الناظمة لمنطق اشتغال البنيان التاريخي الداخلي. وذلك باعتبار أن مدار الاجتماع السياسي الإسلامي ينطوي على ديناميات تاريخية مختلفة حيناً ومتنابذة أحياناً أخرى. وبالتالي فإن السياق التاريخي الناظم لديناميات الداخل ينفتح على أكثر من مسار واتجاه تجديدي. والمؤلف يسعى من خلال طرحه لهذه التساؤلات إلى كشف معادلات المشروع التجديدي لدولة محمد علي وما انطوت عليه من نقاط توازن مكنته من مواجهة السياسات المقتحمة، ومن نقاط اختلال وفرت شروطاً داخلية استطاعت السياسات الاستراتيجية الغربية أن تحسن توظيفها واستخدامها. وإذا كان المؤلف قد أسهب في تحليل معادلات توازن المشروع التجديدي لمحمد علي في فصول هذا الكتاب، فإن الوجه الآخر للسؤال يدور حول أسس الاختلال التي لازمت مشروع محمد علي وشكلت الخاصرة الوفرة التي نفذ عبرها المشروع الاستعماري للمنطقة.