يستمد هذا الكتاب أهميته من مؤلفته ومن موضوعه ومن طبيعة مقاربته لموضوعه.فأما ما يتعلق بالمؤلفة، فإن "وانغاري ماثاي"، الكينية المولد والمنشأ، قضت كل حياتها في خدمة القضية التي تؤمن بها، وراكمت على مر عقود خبرة عميقة، بإفريقيا ومشاكلها، وبطاقاتها وإمكاناتها أيضا. حيث أسست حركة الحزام الأخضر التي قامت، عبر شبكات من النساء الريفيات، ...
قراءة الكل
يستمد هذا الكتاب أهميته من مؤلفته ومن موضوعه ومن طبيعة مقاربته لموضوعه.فأما ما يتعلق بالمؤلفة، فإن "وانغاري ماثاي"، الكينية المولد والمنشأ، قضت كل حياتها في خدمة القضية التي تؤمن بها، وراكمت على مر عقود خبرة عميقة، بإفريقيا ومشاكلها، وبطاقاتها وإمكاناتها أيضا. حيث أسست حركة الحزام الأخضر التي قامت، عبر شبكات من النساء الريفيات، بزراعة ما يزيد على 30 مليون شجرة في أنحاء كينيا. لتنتخب في البرلمان سنة 2002، وتتولى بعد ذلك منصب نائب وزير البيئة والموارد الطبيعية. ليأتي بعدها الاعتراف الدولي متمثلا في حصولها على جائزة نوبل للسلام في عام 2004.وأما ما يتعلق بموضوع الكتاب، فهو واقع قارة أنهكها الجوع والفقر والمرض، غير أنها قارة مستبشرة، لم تفقد الأمل بعد في النهوض، لذا فالكتاب ليس مجرد ترف فكري: إنه تشخيص أزمة دقيق، واقتراح حلول طموح، من مواطنة أحبت بلدها وأفنت عمرها في التعبير عمليا عن ذلك الحب.وأما ما تعلق بطبيعة المعالجة، فالكتاب يصدر عن سيدة شكلت رؤيتها عبر الاحتكاك بالناس ومشاكلهم، وعبر معايشتهم في الحقول والأكواخ، من خلال حركة الحزام الأخضر، وليس من خلال مكتب أنيق يخفي زجاجه السميك بشاعة واقع يلفه الحرمان. لذا جاء الكتاب عمليا، يقدم مجموعة من المبادئ العملية التي تجنب المواطني ومزارعي الكفاف أزمة الغذاء، كما يقترح الكتاب مبادئ تؤسس لضمان الحكم الرشيد، والحريات الأساسية، والتنمية العادلة والمستدامة، والسلام. وإذا كانت المؤلفة تلتقي مع العديد من المفكرين العرب في نقد الحداثة، وإعلاء القيم الثقافية الأصيلة لمجتمعها، فإنها تتميز بواقعية النقد، الذي ينأى عن الإغراق في الإشكالات النظرية (وهذا حال الكثير من مثقفينا)، ويركز أكثر على الواقع، منطلقا للتحليل، وهدفا للتغيير.ثانيا- عرض الكتابينطلق الكتاب بمشهد حقيقي، وقع للمؤلفة أثناء إحدى زياراتها لياوندي، عاصمة الكاميرون، حيث كانت تقف خارج الفندق، بينما تتساقط أمطار خفيفة، ووجدت نفسها تتأمل سيدة تجهز الأرض للزراعة، وكانت أساليب زراعة الكفاف التي تتبعها تتسبب في تآكل التربة وفقدان الماء، وزراعة الكفاف هي وسيلة السواد الأعظم من الأفارقة لكسب لقمة العيش، غير أن التحديات التي تواجه تلك الفلاحة هي عالم مصغر، بطرق عدة، للتحديات الهائلة التي تواجه الفلاح الأفريقي تحديدا، وأفريقيا بوجه عام: فامتيازات التعدين والأخشاب التي تغذي الطلب العالمي النهم يتهدد بتدمير غابات حوض الكونغو، بالإضافة إلى أن الفلاحة الشعبية السائدة تؤدي إلى تدهور التربة وإفقارها. لذا يحتاج الفلاحون بشكل عاجل للتعليم وتنمية المهارات، وإلا ستعاني الأجيال المقبلة من تمدد الصحاري، وتدهور الأراضي، وتزايد أعداد النازحين والمهاجرين الباحثين عن الطعام والماء والمراعي.. وسيعانون بسبب الصراعات الحتمية التي تحدث عندما يتدافع الناس من أجل الموارد النادرة.وقد يكون هذا الجهل من مخلفات الاستعمار الذي عانت منه إفريقيا طويلا؛ لكن على الرغم من أن الاستعمار كان مدمرا لإفريقيا، فقد أصبح كبش فداء مريحا لتبرير الصراعات، وأمراء الحرب، والفساد، والفقر، والتبعية، وسوء الإدارة في المنطقة. لا يمكن لإفريقيا الاستمرار في إلقاء اللوم على الاستعمار إزاء إخفاق مؤسساتها، وانهيار بنياتها التحتية، والبطالة وتعاطي المخدرات، وأزمات اللاجئين؛ لكن أيا من هذه الأمور لا يمكن فهمه بشكل كامل من دون الإقرار بحقيقة ماضي إفريقيا.ورغم أن علماء الآثار والمؤرخين يثبتون أن للقارة تاريخا مزدهرا بالحضارات المتطورة والراقية التي سادت في القرون التي سبقت وصول الأوروبيين، إلا أن شعوب إفريقيا خضعت مطولا لتضليل قوي؛ فعلى مدى خمسة قرون، ظل العالم الخارجي يخبر الأفارقة أنهم شعوب متخلفة، طقوسهم الدينية آثمة، وزراعاتهم بدائية، وأنظمتهم في الحكم غير مناسبة، ومعاييرهم الثقافية همجية. وهكذا عانى الأفارقة من استعمار مزدوج، مادي وعقلي. حيث عمل الأخير تحديدا على تدمير التراث الروحي والثقافي للأفارقة، والذي كانت أبسط نتائجه السياسية هي ندرة القيادة الصالحة. فبعد الاستقلال، وظهور الدول القومية، استلم قيادتها في الغالب نخب ذات تعليم غربي، وكان معظمهم مؤيدا للإدارة الاستعمارية، فاحتفظ بمقومات الحكم الاستعماري، الذي يخدم مصالح القوى الاستعمارية.ولا تكتفي المؤلفة بالنتائج السياسية والاقتصادية السلبية للاستعمار، بل تذهب إلى أن أكبر العوائق الآن هو من طبيعة ثقافية، فما يطلق عليه الأفارقة الآن اسم "أمة" ليس سوى قشرة خارجية وضعت فوق دولة معدومة الثقافة، بلا قيم، أو هوية، أو شخصية. حيث يجري إحباط ومحاصرة كل من يروج للثقافات المحلية وإدانته بتهمة رعاية القبلية، ويتم تحفيزه في المقابل على أن يصبح مواطنا في الدولة الحديثة، وهي دولة ليس لها من شخصية سوى جواز السفر وبطاقة الهوية.