في ذلك الوقت 1983 - 1984 عكفت على ترجمة رواية سنان حساني"الريح والبلوط"التي كانت قد تحولت الى مسلسل تلفزيوني أثار اهتماماً واسعاً. وكان يبدو لي، بنوع من الحدس، ان الرواية تعيد التاريخ السابق ليوغوسلافيا الذي بدا انه انتهى الى غير رجعة. ومع استغراقي في ترجمة الرواية اقترح علي الصديق وليد ابو بكر ان أنشرها في سلسلة "ذاكرة الشعوب"ا...
قراءة الكل
في ذلك الوقت 1983 - 1984 عكفت على ترجمة رواية سنان حساني"الريح والبلوط"التي كانت قد تحولت الى مسلسل تلفزيوني أثار اهتماماً واسعاً. وكان يبدو لي، بنوع من الحدس، ان الرواية تعيد التاريخ السابق ليوغوسلافيا الذي بدا انه انتهى الى غير رجعة. ومع استغراقي في ترجمة الرواية اقترح علي الصديق وليد ابو بكر ان أنشرها في سلسلة "ذاكرة الشعوب"التي كانت تصدرها في بيروت مؤسسة الابحاث العربية، وعرض علي التوسط مع صاحب ومدير المؤسسة الكاتب والوزير السابق هاني الهندي الذي كان على علاقة خاصة مع يوغوسلافيا.وهكذا بعد رسالة سريعة وصلني الجواب من هاني الهندي بالموافقة على نشر الرسالة، وثم سارت الاجراءات بسرعة الى ان صدرت الرواية في ربيع 1986، عندما تولى سنان حساني منصب الرئاسة.وعلى اعتبار ان هاني الهندي، أحد رموز الحركة القومية العربية، كان يتردد من حين الى آخر على بلغراد منذ أيام العلاقات الحميمة بين تيتو وناصر، فقد تبلورت فكرة دعوته لزيارة كوسوفو للقاء مع الرئيس في أول زيارة له الى بلغراد.في غضون ذلك كنت نشرت مقالة عن سنان حساني في مجلة العربي في نيسان 1986 بعنوان"سنان حساني من الدين الى السياسة مروراً بالأدب"توقفت فيها بشكل خاص عند دلالات رواية"الريح والبلوط"التي كانت على وشك الصدور بالعربية.ونظراً لأن الرواية تتحدث عن التعسف الصربي ضد الألبان في مرحلة سابقة في خمسينات القرن العشرين جاءت المقالة كأنها تقارب الضغط الصربي الجديد على كوسوفو مع صعود سلوبودان ميلوسيفيتش. وربما كانت المقالة مشحونة بالجو السائد آنذاك، ولذلك فقد فوجئ الناقد د. سمير روحي الفيصل حين رآني بعد أسابيع من نشر المقالة وقال:"هل لا تزال على قيد الحياة؟".المهم ان الاستاذ هاني، كما كنا نناديه، كان على وشك الوصول الى بلغراد. وقد تحدثت مع صديق لي يشغل موقعاً ثقافياً في كوسوفو الشاعر بدري هيسا فتولى تأمين سيارة وجولة للضيف في ارجاء كوسوفو التي كانت تدور فيها أحداث الرواية ثم عودة الى بلغراد لمقابلة الرئيس.كانت تلك فرصة فوجئت فيها بسهولة الدخول على رئيس دولة، ولا أزال أعتقد إن اجراءات الدخول على أي محافظ في البلاد العربية كانت أصعب من ذلك. كان اللقاء بسيطاً وحميماً دام حوالى الساعة، وتوليت فيه الترجمة أيضاً بين الرئيس والاستاذ هاني. وقد لاحظت وأنا أدخل مكتب الرئيس وجود نسخة من مجلة"العربي"التي نشرت المقالة المذكورة على المكتب فأدركت فوراً الرسالة.كانت الترجمة العربية لرواية"الريح والبلوط"مناسبة ثقافية اهتمت بها الصفحات الثقافية في الصحف العربية، ولكنها تحولت في بلغراد الى حدث سياسي بامتياز. فقد شنت بعض المنابر الصربية في بلغراد هجوماً على الرواية وعلى الترجمة على اعتبار انها معادية ليوغوسلافيا. وكان من الواضح آنذاك ان كل نقد للسياسة الصربية كان يتحول الى نقد معاد ليوغوسلافيا وكأن الصرب فقط هم اصحاب يوغوسلافيا. وبعبارة اخرى تحولت الترجمة العربية للرواية الى عبء على سنان حساني في تلك السنوات العصيبة. المهم بالنسبة إلي، في الاوضاع الصعبة التي كنا نعيشها، كان ما سأقبضه من مكافأة مقابل عملي في ترجمة الرواية. وبعد صمت طويل فاتحت الاستاذ هاني بالأمر ففوجئت بقوله ان دار النشر مؤسسة الابحاث لا تدفع مكافأت البتة! ولكن لما رأى صدمتي قال انه سيدفع بشكل استثنائي واكراماً لي 150 دولاراً. كانت بالفعل صدمة لأنني كنت أتوقع أكثر من ذلك بكثير في ذلك الوضع الصعب الذي كنا فيه.المهم انني أخذت المبلغ ودعوت الاستاذ هاني الى غداء في مطعم فندق"سلافيا"الذي كلفني خمسين دولاراً، وعدت من بلغراد الى بريشتينا بمبلغ مئة دولار وبحملة من الصحافة الصربية على الترجمة العربية للرواية على اعتبارها"معادية ليوغوسلافيا"!