يرى كثير من الباحثين أن التعرض لوسائل الإعلام، لا يعدو كونه مجرد خيارات أو قرارات فردية لأشخاص منعزلين بعضهم عن بعضهم الآخر، ولا يوحي بوجود صلة للترابط الفكري أو الوجداني بين الفرد والآخرين في محيطه.غير أن الأمر المؤكد أيضا، أننا وإن كنا نتعرض لهذه الوسائل بشكل مستقل وفردي، غير أننا محكومون بأطرنا المرجعية، وخبراتنا الخاصة وحاجا...
قراءة الكل
يرى كثير من الباحثين أن التعرض لوسائل الإعلام، لا يعدو كونه مجرد خيارات أو قرارات فردية لأشخاص منعزلين بعضهم عن بعضهم الآخر، ولا يوحي بوجود صلة للترابط الفكري أو الوجداني بين الفرد والآخرين في محيطه.غير أن الأمر المؤكد أيضا، أننا وإن كنا نتعرض لهذه الوسائل بشكل مستقل وفردي، غير أننا محكومون بأطرنا المرجعية، وخبراتنا الخاصة وحاجاتنا وتوقعاتنا، فهذه كلها تحكم الطريقة التي بها ندرك الأشياء والمعلومات والمواقف، ونفسرها.. وهذا يعني أننا نتفاوت في فهمنا وتفسيرنا وإدراكنا لما نستقبله من رسائل عبر وسائل الإعلام.وعلى هذا، فإن مهمة وسائل الإعلام شاقة جدا، وهي تتعامل مع أفراد الجمهور أو الجماهير المتنوعة، ذلك أن كلا منا ينظر ويقيّم هذه الوسائل وعملها ومناهجها ورسائلها، وفقا لإرهاصاته ودوافعه وخبراته ومنطقه الشخصي؛ وهو في الواقع لا يتعامل مع الوسيلة من حيث كونها وسيلة، بل هو يدرك أفكار القائم بالإتصال الذي لا يراه، أو يتعامل معه مباشرة، ولكنه يرى بدلا منه الوسيلة التي تعبر عن أفكاره وقيمه وإتجاهاته بما تقدم له من رسائل ومواقف؛ وهذا يذكرنا ربما بالعبارة المأثورة (الوسيلة هي الرسالة). فالوسيلة باتت النافذة التي يطل منها القائم بالإتصال على الجمهور، ليمرر ما يريد، وأحيانا ما يريده الجمهور نفسه. وكذلك هي الشيء نفسه فيما يتعلق بالجمهور، إذ يمكن له عن طريقها أن يرى أفكار القائم بالإتصال وإتجاهاته وقيمه.وهنا يبرز عامل مهم.. هو عامل الثقة. فهل نستطيع أن نثق ونصدق بما تقدمه لنا هذه الوسائل أو بعضها في الأقل؟ خاصة إن مجرد إدراك الفرد بأنه هدف لهذه الوسيلة أو تلك، تحاول التأثير فيه بشتى الأساليب، كفيل بأن يولد لديه مقاومة ومناعة ضد التأثر. ولكن هل كل أفراد الجمهور يدركون ذلك بالقدر نفسه؟ربما تفاوت الإدراك بين فئات الجمهور، كان سببا بحد ذاته لأن تتجه بحوث الإعلام والدراسات الإنسانية بصفة عامة، إلى دراسةالجمهورعلى أساس سماته الديموغرافية، منمثلالسنوالنوعومستوىالتعليموالمهنة ومستوىالدخل.. وما إلى ذلك،إذ إن هذه السمات تتفاعل مع عناصر سيكولوجية وسوسيولوجية ومعرفية، تؤثرفي نمط السلوك الإتصالي. والسلوك الإتصالي في واقع الأمر، جزء من السلوك الإنساني، الذي هو حصيلة التفاعل بين الإنسان والموقف في شروط البيئة التي يوجد فيها وظروفها.والبحوث اليوم تتجه إلى فهم الدوافع الكامنة وراء سلوك الفرد، ومعرفة إتجاهاته، ذلك أن الإتجاهات تستند في تكوينها إلى خبرات الفرد السابقة عن الموضوع أو الموقف، فتعمل على تكوين مشاعر ومعتقدات وتقديرات تجعل الفرد يستجيب سلبا أو إيجابا للموضوعات المختلفة وفق ما لها من قيمة إيجابية أو سلبية بالنسبة له. فدوافعنا وحاجاتنا وإتجاهاتنا، لها دور أساس في تكوين صورنا الذهنية عن الآخرين والأشياء والمواقف، ومن ثم في رسم حدود ثقتنا في هؤلاء الآخرين والأشياء. لذلك تلجأالمنظماتوالمؤسساتفي البلدان المتقدمة عادة ـ فيمحاولاتهملمعرفة كيفيةالتأثيرفيسلوكالجمهور أو الجماعات المختلفةـإلىدراسةإتجاهاتهمبهدف التمكن منتفسيرسلوكهمأو التنبؤبه،كي يتحكموافيهأو يغيروهأويعدلوهبالإتجاهالمطلوب؛ بل إن الأمر بلغ بمطالبة القائم بالإتصال، تمثل مشاعر المتلقي ورغباته وتوقعاته، وتقمص شخصيته، في محاولة للإقتراب منه لأقصى تفاعل ممكن.ولا بد من التنبيه هنا، إلى أن هذه المحاولة البحثية لا تنصب على دراسة السلوك، أو دراسة مدى قدرة وكفاية وسائل الإعلام على تدعيم إتجاهات معينة لدى الجمهور أو تعديلها، بل هي محاولة معرفة وفهم ماهية هذه الإتجاهات لدى الجمهور العراقي (تحديدا) إزاء وسائل إعلامه الجديدة، بهدف معرفة مستويات ثقته بهذه الوسائل عن طريق معرفة إتجاهاته نحوها.فالسنوات الثماني المنصرمة، شهدت إنفتاحا هائلا وتنوعا في مجال عمل وسائل الإعلام العراقية التي تباينت،لتعكس بدورها توجهات شتى لأفراد وأحزاب وتنظيمات مختلفة تبنت معظمها معايير جديدة في العمل الإعلامي، لتحقق أهدافا ما كانت لتتحقق في ظل الإعلام المركزي ذي الخطاب الواحد الذي كان سائدا قبل 9/4/200.وعلى الرغم من التطور الحاصل والملموس في عمل وسائل الإعلام الجديدة الذي مثل إضافة يعتد بها، إلى رصيد العمل الصحفي والإعلامي العراقي، فما زالت هناك تحفظات لدى الجمهور العراقي بشأن عمل وسائل الإعلام العراقية بوجه عام، من صحافة وإذاعة وتلفزيون على وجه أخص، هذه التحفظات ترتكز إلى محور أساسي يمكن تلخيصه بالسؤال الآتي: إلى أي مدى يثق الجمهور العراقي بوسائل إعلامه المحلية الجديدة؟ وقد طرحت خطابات مغايرة لما اعتاده، ومتنوعة عبرت عن إتجاهات وتيارات فكرية مختلفة، تباينت بطبيعة الحال في أساليبها وطروحاتها، بين طرفي نقيض من التوازن والحدة، ومن ثم فإلى أي حد يستطيع الجمهور الإعتماد على هذه الوسائل في إستقاء الأنباء والمعلومات بشأن القضايا والشؤون المختلفة التي تمس مصالحه بشكل مباشر؟فالبيئة الإعلامية الجديدة في مناخاتها المنفتحة نحو الحرية من جانب، والفوضى من وجهة نظر أخرى، فضلا عن التجاذبات السياسية التي ألقت بأثرها على عمل وسائل الإعلام، جعل المتلقي العراقي يستمع ويشاهد ويقرأ فيغير قليل من التشكيك بصحة وصدقية ما يرده عبر هذه الوسائل، فضلا عن كونه يعزف في أحيان كثيرة عن الإستماع والمشاهدة والقراءة.ومن الضروري هنا، إبعاد التصور القائل بسلبية الجمهور تجاه وسائل الإعلام وفرضية الطلقة السحرية ،والإفتراض بدلا من ذلك أن الجمهور نشط وعنيد، ذلك أن الجمهور العراقي ليس سلبيا إزاء ما تقدمه له وسائل الإعلام، فهو ينتقي من هذه الوسائل ما يتواءم مع حاجاته ومعارفه وإتجاهاته ومعتقداته الخاصة فضلا عن إنتماءاته المرجعية.وحري هنا الإشارة، إلى أن الباحثة ليس هدفها دراسة كم التعرض؟، فكلنا يتعرض بشكل أو بآخر وفق ما يتيحه لنا الوقت؛ ولكن المهم معرفة لماذا التعرض؟ أو لمن نتعرض؟ ذلك أن معرفة أسباب التعرض ودوافعه تجعلنا نقف على حقيقة مفادها: أننا نتعرض للوسائل التي نثق بصدقيتها أو أنها مقاربة لاتجاهاتنا، ومن ثم فإن إهتمامنا وتفضيلنا لوسيلة معينة لا بد وأن يعكس قدرا من ثقتنا بهذه الوسيلة.إن هذه الدراسة التي اعتمدت المسح بالعينة منهجا لها؛ جاءت بأربعة فصول، أفرد الفصل الأول منها، للتأصيل النظري لمفهوم الجمهور وأنواعه وتقسيماته وخصائصه من وجهات نظر مختلفة، فضلا عن التطرق لمفهوم الجمهور النفسي وخصائصه.وخصص الفصل الثاني لدراسة إفتراضات نظرية بشأن أهم دوافع تعرض الجمهور لوسائل الإعلام، متمثلة بالدوافع والحاجات، والإتجاهات، وصورة الوسيلة لدى المتلقي؛ كما عرّج على بعض المنظورات الخاصة بطبيعة الإستعمال للوسيلة، كالعوامل الوسيطة، والإستعمالات والإشباعات، ونظريات التوازن المعرفي.وعُيّن الفصل الثالث للنظر في طبيعة المجتمع العراقي وخصائص الشخصية العراقية في ظل متغيرات البيئة السياسية والإجتماعية والإقتصادية؛ ومن ثم العروج على موقف الجمهور العراقي من وسائل الإعلام العراقية بعد 9/ 4/ 2003.بينما كرس الفصل الرابع والأخير للدراسة الميدانية على جمهور مدينة بغداد (إنموذجا للدراسة)؛ بدءا من إجراءات الدراسة المنهجية وضوابط بناء المقياس والإستبانة، وانتهاءا بتحليل نتائج الدراسة الميدانية وبناء الإستنتاجات والمقارنات المنهجية.وأخيرا نسأل الباري عز وجل أن نكون قد وفقنا في بحثنا هذا، وأن يفيد منه الباحثون وطلاب العلم والمعرفة في مجال الإعلام وفي الإختصاصات الإنسانية القريبة؛ وأن يفتح الباب أمام تطوير دراسات جديدة في مجال بحوث الجمهور؛ ويقدم المساعدة للقائمين بالإتصال، وحثهم على إتباع أفضل السبل لكسب ثقة الجمهور، وإستمالته لرسائلهم الأعلامية بأشكالها المتنوعة، وأهدافها المحددة.