أن التعليل هو أكثر المباحث في نظرية النحو القديمة ارتباطاً بغيره من أجزاء هذه النظرية؛ كان منطقُ البحث يستوجب علينا أن ندرس أصول النحو من جديد –بعد أن رأينا أنفسنا غير مقتنعين بما كتبه غيرنا- ثم ندرس التعليل في مباحثه القديمة؛ قبل أن نناقش المحدثين في فهمهم لأصول النحو والتعليل وفهمهم لصلة التعليل بأصول النحو، وقبل أن نقوّم رأيه...
قراءة الكل
أن التعليل هو أكثر المباحث في نظرية النحو القديمة ارتباطاً بغيره من أجزاء هذه النظرية؛ كان منطقُ البحث يستوجب علينا أن ندرس أصول النحو من جديد –بعد أن رأينا أنفسنا غير مقتنعين بما كتبه غيرنا- ثم ندرس التعليل في مباحثه القديمة؛ قبل أن نناقش المحدثين في فهمهم لأصول النحو والتعليل وفهمهم لصلة التعليل بأصول النحو، وقبل أن نقوّم رأيهم في صلة النحو بالمنطق والفلسفة وأصول الفقه، وقولَهم في قيمة التعليل في الدرس اللغوي الحديث. ولأجل ذلك كله قسمْنا الكتاب إلى بابَيْنِ:الباب الأول: أصول النحو والتعليل في الدرس النحوي العربي القديم.والباب الثاني: التعليل النحوي في الدرس اللغوي العربي الحديث.وقد وجدنا -بعد قراءة مفيضة لعشرات المصادر المتعلقة بأصول النحو والتعليل القديمة والحديثة- أن التعليل النحوي القديم لا يمكن فهمه إلا بربط العلة بأجزاء النظرية النحوية ككل، وأن أكثر الكتب التي تناولت قضايا أصول النحو سواء أكانت في القديم أم الحديث لم تراعِ الترتيب المنطقي لموضوعات أصول النحو، ولم تكلف نفسها تفسير العلاقات بين أجزاء النظرية النحوية القديمة تفسيراً يقود إلى الفهم الصحيح المفصل لأدلة النحو؛ لأجل هذا وقعت في مغالطات سنعرضها في موضعها في هذا الكتاب، ولأجل ذلك كله كُنّا مضطرين إلى التدرج في فهم النظرية النحوية للوصول إلى الهدف المنشود: التعليل النحوي في القديم. وكم ظلَلْنَا نفكر في ترتيب هذا التدرج الذي كان يصعب وضعه لارتباط مصطلحات النظرية النحوية ومباحثها بعضها ببعض بحيث يستحيل الحديث عن جزء منها دون التطرق إلى علاقته ببقية الأجزاء، فماذا صنعنا لحل هذه المعضلة؟..لقد قرَّرْنا أن نبدأ بأهم مباحث الأصول النحوية التي يترتب عليها فهم ما بعدها أكثر من غيرها من المباحث الأخرى؛ وصولاً إلى التعليل النحوي، مع الاستعانة بالحواشي لشرح أي مصطلح أو قضية يرتبطان بموضوع المتن شرحاً مختصراً يشير إلى أنه سيتم التفصيل فيهما في موضع لاحق؛ وفي سبيل هذا التدرج جاء الباب الأول "أصول النحو والتعليل النحوي في الدرس النحوي القديم " مرتباً على خمسة فصول:الفصل الأول: المطرد والشاذ في النحو.الفصل الثاني: الأصل والفرع في النحو.الفصل الثالث: القياس النحوي.الفصل الرابع: أدلة النحو.الفصل الخامس: التعليل النحوي في الدرس النحوي العربي القديم.والذي شجعنا أكثر في تفصيل الحديث عن مباحث أصول النحو قبل الحديث عن التعليل هو كون الخلاف بين المحدثين في فهم هذه المباحث قائماً بشدة؛ الأمر الذي يتطلب منّا أن نقول كلمتنا أيضاً لنستطيع -بما توصلنا إليه- أن نناقش المحدثين فيما رأوه من علاقة العلة النحوية بأدلة النحو المختلفة، وهي علاقة لا يستطيع أي باحث محدَث تجاوزها إذا أراد أن يقول كلمته في التعليل النحوي. وأما الباب الثاني من الكتاب فهو يتحدث عن "التعليل النحوي في الدرس اللغوي العربي الحديث"، وقد اخترْنا لتمثيل آراء النحويين المحدثين عشرين أستاذاً وباحثاً؛ مع العناية بأشهر الأساتذة والباحثين المحدثين وأسبقهم قدماً في التعليل؛ الذين تأثر بهم غيرهم؛ رغبة في أن يكون ذلك العدد كافياً لتمثيل مختلف المدارس النحوية في العصر الحديث؛ والوقوف عند أصناف اتجاهات البحث الحديثة في العلة؛ والقناعة بهذا العدد في تصور موقف النحويين المحدَثين من العلة؛ وإشباع كتابنا بقضايا التعليل النحوي في العصر الحديث الذي هو أهم موضوعاتنا في الأصل.وحينما اطلعنا على ما كتبه أولئك العشرون وجدنا أن أكثر ما ركزوا عليه وتحدثوا عنه فيما يخص العلة النحوية يمكن جمعه في ثلاث نقاط:- مفهوم التعليل النحوي في نظرهم، وما يتعلق بهذا المفهوم من تصنيف العلة وشروطها وعلاقتها بأدلة النحو الأخرى.- علاقة العلة النحوية بالفلسفة والكلام وأصول الفقه، وما يتبع هذا من تاريخ تطور العلة.- آراء المحدثين في قبول العلة النحوية أو رفضها، وما يندرج تحته من الحديث عن درجات قبول العلة، وذكر محاسن التعليل ومساوئه.وعلى هذا الأساس جاء الباب الثاني في ثلاثة فصول: - الفصل الأول: مفهوم التعليل النحوي عند النحويين المحدثين: وفيه نقاش عن تصنيف العلل عند المحدثين؛ وكيفية فهمهم للعلة النحوية من خلال علاقتها بأدلة النحو؛ وموقعها من هذه الأدلة. وهذا الفصل يبدأ بمدخل في تأريخ النهضة العربية الحديثة؛ هدفه تحديد المرحلة الزمانية التي يبدأ بها العصر الحديث في نظرنا.- الفصل الثاني: آراء النحويين المحدثين في المؤثرات الخارجية في التعليل النحوي القديم: وفيه نناقش ما ذهب إليه المحدثون من تأثر العلة أو عدمه بالفلسفة والكلام وأصول الفقه.- الفصل الثالث: آراء النحويين المحدثين في قبول التعليل النحوي.وتعقب هذه الفصول الخاتمة التي وضحنا فيها نتائج بحثنا؛ وما ذهبنا إليه من رأي في التعليل النحوي؛ مقارنة بما كتبه المحدثون.ولا شك أن هذا الموضوع الذي اخترناه كان فيه الكثير من العناء:- إذ كان علينا أن نفك رموز المصطلحات الغامضة الكثيرة الخاصة بأصول النحو، وقد اتخذنا لحل هذه المشكلة قبل كتابة البحث طريقة الجدولة، وذلك بوضع المصطلحات ذات الصلة والتداخل في المفاهيم في صورة أعمدة يضم كل عمود مصطلحاً معيناً مثل مصطلح الأصل ومصطلح القياس ومصطلح القاعدة... إلخ، وفي صفوف الجدول نفسه وضعنا الخصائص التي تفرق بين مصطلحات الأعمدة؛ مثل خاصة الاطراد أو الشذوذ، وخاصة الحسي أو العقلي، وخاصة العدم أو الوجود إلخ. وبهذه الجدولة -التي تبين نقاط الاتفاق والافتراق بين المصطلحات التي طالما اختلف المحدثون فيها- استطعنا أن نعالج مصطلحات الباب الأول متجاوزين عقبات إشكال فهمها؛ متوصلين إلى الفهم الذي نرتضيه لأصول النحو والتعليل النحوي في القديم.- وكان علينا أيضاً أن نجري وراء مصطلحات أصول الفقه والفلسفة والمنطق والكلام؛ لندرك مدى العلاقة بينها وبين مصطلحات أصول النحو.- ثم كان علينا أن نشرح موضوعات التعليل النحوي وموضوعات أصول النحو التي وجدنا أن أكثرها موضوعات لم يقم المحدثون بشرحها؛ بل اكتفى أغلبهم بنقلها من القدماء على ما هي عليه من الغموض والتعقيد.- والعقبة الكبرى تمثلت في إعادة تصنيف أدلة النحو؛ وترتيبها الترتيب المنطقي المتدرج؛ وبيان الفرق بين كل منها؛ لأن النحاة في القديم تركونا في خلاف حولها؛ مع تضارب آرائهم في كثير من مواضع أصول النحو، ولسبب آخر هو أن أكثر النحاة المحدثين لم يكلفوا أنفسهم جهداً كبيراً لإعادة النظر في مفهوم كل دليل نحوي وعلاقته بالأدلة النحوية، ووضع الحدود الفاصلة الدقيقة لكل أجزاء النظرية النحوية، ورفع حجب الغموض عن كثير من قضايا أصول النحو، فنحن لو تصفحنا ما كتبه المحدثون لوجدناهم على خلاف في فهم المطرد والأصل والقياس والاستصحاب والتعليل والعلاقة بين الأدلة المعتبرة وغير المعتبرة.. إلخ.- وكان من الواجب علينا -ونحن نتدرج في موضوعات كتابنا فصلاً فصلاً- أن نجعل الحواشي وسيلتنا المثلى في حل مشكلة ارتباط كل فصل من فصول الكتاب بالفصول التي تليها، فكُنّا نشرح في الحواشي بصورة ميسرة كل ما يمر بنا من مصطلحات لا بد من التطرق إلى شرحها في الحاشية؛ لفهم المراد مما جاء في المتن؛ حتى إذا ما جاء الدور لمصطلحات الحواشي شرحناها مفصلة في المواضع التي تحتاج إلى تفصيلها في فصول لاحقة، وبذلك حَلَلْنا المشكلة التي وقع فيها أكثر المحدثين حين تركوا الربط بين مصطلحات أصول النحو لفهم العلاقة بينها في كل موضع يتطلب ذلك، ولأجل قيمة حواشي الكتاب نوصي بقراءتها لأنها في كثير من المواضع تكون مفتاحاً لفهم ما جاء في متن الكتاب. - وقررنا في نهاية كل فصل من فصول الباب الأول أن نزود الفصل بلوحات توضيحية في صورة ملخص يسهِّل فهم ما جاء في الفصل من مصطلحات وقضايا أصولية متفرعة يهمنا تيسيرها لتشعبها؛ لِتَتَبَيَّنَ بوضوح وجهة نظرنا لمن أراد أن يقارن بينها وبين آراء المحدثين وجهودهم.- وكثيراً ما تجنبنا نقل نصوص القدماء حرفياً لئلا نقع في المشكلة نفسها التي وقع فيها كثير من المحدثين الذين تركوا مباحث القدماء على غموضها ناقلين إياها حرفياً؛ على أننا حين تَجَنَّبْنا نقل النصوص الغامضة أشرْنا إلى مصادرها أو ألحقناها بالمتن بعد تقديم شرح عليها. - ومن أكثر الصعوبات: ارتباط التعليل النحوي بأكثر قضايا أصول النحو؛ الأمر الذي جعلنا في كل فصل جديد نعيد نظرتنا إلى بعض ما سبق في الفصول الماضية، واستمرت الحال هكذا حتى آخر فصل من هذا الكتاب؛ حينها اطمَأَنَنَّا -كما نتصور- لنتائجنا التي جاءت بعد أخذ ورد للتأكد من صحتها؛ إذ يمكن القول بعد هذا إن نقض أية فكرة في التعليل أو في جزء من النظرية النحوية سيؤثر حتماً في فهم سائر أجزاء النظرية.ولأجل كل تلك العقبات؛ ولصعوبة الموضوع؛ سعينا في نهاية كل فصل من فصول الباب الأول أن نلخص موضوع الفصل في صورة لوحات مختصرة تجمع أهم القضايا التي مرت في متن ذلك الفصل وحاشيته، وأما تيسير الباب الثاني الخاص بالمحدثين فقد جاء في نهاية كل فصل على صورة خلاصات جدولية تقارن بين آرائنا وآراء المحدثين في كل قضية.