في الشهرين الأخيرين من حياته فقط، شعر ريمون إدّه أنه يدنو من الموت. لكنه قرر مقاومته. لم يعرف أيٌّ من القريبين منه، ولا حتى أقربهم إليه، بمرضه سوى طبيبه. لم يعرفوا، هم والناس، أنه مات من المرض لا من الشيخوخة إلا بعدما رحل. فمنذ آخر آذار 2000 أصبحت واضحة بالنسبة إليه الحقيقة التي يقبل عليها مرضه في مرحلته الأخيرة. وفي الأسابيع ال...
قراءة الكل
في الشهرين الأخيرين من حياته فقط، شعر ريمون إدّه أنه يدنو من الموت. لكنه قرر مقاومته. لم يعرف أيٌّ من القريبين منه، ولا حتى أقربهم إليه، بمرضه سوى طبيبه. لم يعرفوا، هم والناس، أنه مات من المرض لا من الشيخوخة إلا بعدما رحل. فمنذ آخر آذار 2000 أصبحت واضحة بالنسبة إليه الحقيقة التي يقبل عليها مرضه في مرحلته الأخيرة. وفي الأسابيع الأخيرة بات يقول أنه لا يخاف الموت، ولا يقلقه معرفة حقيقته ما يقبل عليه. أنه سيموت. قال لطبيبه: "حكيم، لمَّن بتشوف خلصنا... يعني خلصنا". عاش هذا الرجل دائماً بشروطه هو، حيث يكون، وفي أي حقبة من حياته، يتخذ قراراته بشروطه، ويحدد أمد صداقاته وعداواته بشروطه. يقترب ويبتعد بشروطه. ثم يموت بشروطه، وهو لذلك أحب الحياة بشروطه، وخصوصاً في تفاصيلها ومظاهرها البراقة والمكشوفة وفي صخبها العام كما لم يعش أحد مثله، مليئة بالأشخاص والأسرار والأحداث والمغامرات والمجازفات والتحوّلات والمفاجآت والمفارقات، وحتى الرتابة، بدءاً من كونه، مطلع شبابه، وجد نفسه يعيش في بيت رئيس للجمهورية.في هذا الإصرار على شروطه وعلى التمسك بخياراته في المبادرة وردّ الفعل والتصرف والمواجهة والمهادنة والمباغتة، أقام ريمون إدّه مفهومه للحرية الذي لم يتنازل عنه مرّة، ولا ساوم يوماً على حقه فيها، في أن يعيش الديموقراطية في كل تفاصيل حياته الطويلة، في الحزب وفي مكتب المحاماة، في البيت وفي البرلمان وفي الحكومة، في بيروت وفي باريس، وحيداً وسط أصدقائه ومنافسيه.أشعرته الأشهر الأخيرة بوطأة عزوبيته عليه. يعيش وحيداً في فندق، كان يقول لأصدقائه والقريبين منه: "لم يبق عندي كثير من الأصحاب من جيلي هنا في فرنسا. معظمهم تقريباً مات. كذلك في بيروت". ثم يضيف في مناسبات عدة: "ذهب جيلي السياسي بينهم الآدمي وكان يجب أن يعيش أكثر، وبينهم من أوصل لبنان إلى الحرب أو جنى مكاسب شخصية أو أوجد أحزاباً سيئة وكان يجب أن يموت قبلاً". ومن غير أن يصرّح أكثر وجهاراً، لم يكن يفوت محاوريه من يقصد من كلتا فئتي هذا التصنيف. من الفئة الأولى عنى ضمناً صديقه القديم الذي أحب كمال جنبلاط وحليفه القديم رشيد كرامي اللذين قضيا اغتيالاً، وعنى أيضاً صديقاً قديماً آخر هو صائب سلام. ومن الفئة الثانية عنى ضمناً خصمه السياسي القديم بيار الجميل. ظلّ يحمل أسراره معه ووحده، الأسرار الشخصية وتلك السياسية، وأسرار الصداقات والعداوات، فيظهر بذلك قدرته على السيطرة عليها من غير توهمه خسارة عدم كشفها أو تدوينها. وعِبءُ حمل الوحدة وضجرها والأسرار في سن متقدمة لم يجعلاه يخاف ضياع هذه الأسرار معه. فما كان يعوز وحدته هو طمأنة عميقة تقول برغبته في الاحتفاظ بصحة جيدة. وما كان يرضيه إلى أسراره أنه غير نادم على كشفها أو نشرها، ولن يقلقه أن تموت بموته. يصحّ ذلك على الأسرار التي يملكها عن أسباب قبول والده رئاسة الدولة تعييناً عام 1943 وأسرار حزب الكتلة الوطنية في حقب عدّة، وأسرار انضامه مرغماً إلى الحلف الثلاثي عام 1967، وأسرار حملاته الانتخابية لرئاسة الجمهورية، وأسرار تحالفاته وخصوماته، وسواها الكثير الكثير من عروض وصفقات فوتح بها. فكان يقول أمام عدد من أصدقائه أن بعضها "مؤذ نشره في هذه الأيام. وفي هذه الحال أفضل تركها مكتومة". عندما يعتزم كشف جانب مخفي من حادثة ما، يفرض هو المبادرة وبقدر ما يشاء من سرد الواقع من غير أن يُستَدرج، يقول كل شيء عنها أو لا يقول شيئاً. وفي الغالب يكون ذلك أمام المقربين منه فحسب. أما الجوانب الحميمية والشخصية الوفيرة، القديمة والغامضة منها خصوصاً، فمطوية تماماً عنده وعند شركائه فيها.وغسان التويني الذي عرف وعايش وصادق هذا الرجل عن كثب، يقول في معرض تقديمه لهذا الكتاب: "لو كان "العميد" ريمون إدّه لا يزال معنا لربما حال دون وضع هذه السيرة عن حياته، ذلك أن "العميد العنيد" كان يأنف ما يسميه التعرية، ويعتبر أن حياة القائد السياسي هي مواقفه وأعماله العلنية، وبالتالي عصارتها دون سواها.. ليست هي "مباذلة"، ولا تدرج حياته، ولا خفايا المواقف وخلفيات الأعمال. نوافقه؟.. طبعاً لا. إنما تَفَهمنا ونتفهم الخلفية الديموقراطية البريئة في الزعيم الذي كان يردد "أنا ما عندي شي مخبا".. لا أسرار إذاً، في نظره، "عند" الزعيم الشعبي غير تلك التي يفتح هو واجهتها والخزائن. يكاد الرجل، كما يدرك الراسخون في علمه وفي صداقته، يكاد يكون الوحيد الذي لا تنطلق مواقفه وأقواله من تخمير وتخطيط وحسابات، وحسابات مضادّة.. حقيقته يريدها على طرف لسانه، عفوية، صافية، فجّة... وما همه إذا فهمها البعض أو سئمها البعض الآخر. إنها هي هكذا، وهكذا هو. لكن التأريخ شيء آخر، وآخر هو تطلعه. ولن يكتفي التاريخ من ريمون إدّه بأنه كان "ضمير لبنان" وبطل الدفاع عن حرياته وحقوق إنسانه في وجه كل هِنَة وكل شر وكل تجاهل وكل اغتصاب. التاريخ يريد أن يعرف؛ من أجل الذين لم يعرفوا الأبطال، لماذا كانوا هكذا، ومتى وماذا هيأهم دون سواهم للبطولة، وماذا كان لهم من الإرث مما صقل عقلهم وطيب نفسهم... ثم كيف كانوا يتقبلون الفرح بالنصر أو يهضمون الخيبات، وعلى أي ضيم ناموا، وأي ثأر من التاريخ، هو بعد يتكوّن في حاضره، كانوا يرديون حينما ظلموا.. ثم أي طموح كان طموحهم إلى أن يذوب تاريخهم "الإنساني" في ذاتية الوطن، المجتمع، فَتَيْنَعُ الأفكار مواقف شعبية، متأخرة حيناً؛ إنما فورية في غالب الأحيان بفعل الزخم الزعامي. السيرة إذاً، متى صدقت، وكتابة نقولا ناصيف صادقة، موضوعية لأنها نسيج شهادات لا تنتفخ من المحبة، ووقائع لا يستصغرها الزمن ولا كذّبها مرور الأيام، فضلاً عن المواقف التي لم تدحضها معارضة ولا انتقض من وهجها تمحيص... السيرة إذاً، هي الرجل الآخر الذي سيكتسب منه التاريخ سمته ليحيى، بلحم ودم، "الرجل المكتوب" بالحبر العتيق الزابل يوماً بعد يوم، آراء ومواقف جمّدها الغياب".وبعد الذي قاله غسان تويني عن هذه السيرة وصاحبها؛ وأخيراً لا بد من هذه السطور ففي حديث للعميد مع أصدقاء ذات يوم، عن العبارة التي ينبغي أن يتركها السياسي أو أي شخصية مشهورة شاهدة على قبره، قال: "عندما أموت أرجو أن يكتب على ضريحي بالفرنسية وبالعربية: "Ci-git Raymon qui a vait reaison" "هنا يرقد ريمون الذي كان على حق".