وحدها المصادفة جعلت صدور هذا الكتاب يتزامن مع التغيير الكبير الذي طرأ على الحياة السياسية في لبنان، أي ما عدا انقلاباً على "النظام الأمني" الذي قبض خمسة عشر عاماً على الديمقراطية اللبنانية. وهذا الكتاب، "المكتب الثاني-حاكم في الظل"، يتحدث بدوره عن "نظام أمني" شارك في حكم لبنان قرابة أربعة عقود، ولكنه كان من صنع السلطة اللبنانية ...
قراءة الكل
وحدها المصادفة جعلت صدور هذا الكتاب يتزامن مع التغيير الكبير الذي طرأ على الحياة السياسية في لبنان، أي ما عدا انقلاباً على "النظام الأمني" الذي قبض خمسة عشر عاماً على الديمقراطية اللبنانية. وهذا الكتاب، "المكتب الثاني-حاكم في الظل"، يتحدث بدوره عن "نظام أمني" شارك في حكم لبنان قرابة أربعة عقود، ولكنه كان من صنع السلطة اللبنانية وحدها، وكان رجاله يستمدون شرعيتهم من السلطة نفسها.كل استخبارات تمسي نظاماً أمنياً متى خرجت أو دعيت إلى تخرج من عقالها, وكل استخبارات لا تكتسب هيبتها بمقدرتها على التهديد والتهويل والترويع والنزق والابتزاز إلا عندما تخرج عن القوانين التي ترعى صلاحياتها. بسبب ذلك قيل إن الاستخبارات تخطط في النهار وتنفذ في الليل. ولا يعني ذلك سوى أنها تعول على المعلومات والمفاجأة وتوجيه الضربة غير المحسوبة.ولأن كل نظام أمني أيضاً هو ابن شرعية تطلقه، فإن هذه التبرر له أحياناً أن يكون موبوءاً، ملطخ السمعة، جائراً واستفزازياً باسم دفاعه عن المصلحة العليا للنظام من أجل حمايته من أي تهديد. أي وسيلة تحتم الدفاع عن الأمن القومي. إنه فحسب القيم التي لا سلالم لها.وعلى غرار ما كان يقال ولا يزال عن "النظام الأمني" الذي صنع في التسعينات من القرن الماضي واستمر إلى هذه السنة، قيل الكثير أيضاً عن الشعبة الثانية اللبنانية، الذائعة الصيت بعبارة "المكتب الثاني"، وقيل عن رجالها على مرّ العهود إنهم "الشباب" و"الأشباح" و"الإزدواجية". كان هؤلاء يديرون استخبارات لم تمتهن القتل والاغتيال، ولم تكن مرة دموية في إدارة لعبتها، ولم تجد وظيفتها إلا أن تكون جزءاً من أسلحة السلطة في التغلغل في الإدارة والمجتمع والمؤسسات. ولم يكن الأمن القومي يعني إلا هذا الهدف. ولذا كان لبنان بلا أسرار كبيرة، غمرته الطموحات والثرثرة السياسية.ما يريد أن يقوله هذا الكتاب عن حقبة امتدت من عام 1945 إلى عام 1982، وهو الآتي: أولاً: ثمة رجال عاشوا في الظل وكانوا رجال حكم لبنان لسنوات خلت. اتخذوا خيارات السلطة وقراراتها وأداروا آلة الحكم وأوحوا في بعض محطات أن السياسيين هم واجهة الحدث. كانت تلك حال أنطون سعد مع الرئيس فؤاد شهاب. وغابي لحود مع الرئيس شارل حلو، وجوني عبده مع الرئيس الياس سركيس. كان عليهم أن ينقادوا في خيارات الرئيس فيمنحونها ما لا تتطلبه أحياناً، وكان عليهم كذلك أن يحملوا الرئيس على أن ينقاد إلى خياراتهم هم.ثانياً: يتوخى الكتاب إجراء قراءة مختلفة لحقبة سياسية طويلة خبر لبنان تطوراتها وتقلباتها وأخطارها، وكتب كثيرون، من صانعيها أو على هامش هؤلاء، في الأحداث نفسها وأخضعوها لقراءة تبرر تحليلها. تالياً إن الكتاب إذ يكتب سيرة أربعة هم أنطون سعد وغابي لحود وجول البستاني وجوني عبده كانوا على رأس الاستخبارات العسكرية، يحاول أيضاً كشف جوانب من حقائق وقرارات صنعها هؤلاء ورجالهم ببزاتهم الكاكية، عندما قادوا لبنان إلى خيارات ناجحة وأخرى خاسرة ومكلفة. يروي قصتهم ورجالهم ومن حولهم السياسيون. ولكنها قراءتهم هم الذين لزم بعضهم الصمت احتجاجاً وانكفاءً لئلا يتذكر، والذين خبأ بعضهم الآخر فيه ارتكاباتهم.كل من الرجال الأربعة أصحاب سيرة "المكتب الثاني" بتفاوت ملحوظ تبعاً للمرحلة، كان صاحب مشروع سياسي بمقدار ما كان ضابطاً معنياً بالأمن والاستخبار وجمع المعلومات ووضع تحليل سياسي وأمني لها يمهد لاتخاذ القرار في شأنها.ثالثاً: يرسم ملامح علاقة طويلة بين الاستخبارات العسكرية اللبنانية والسورية غلبت عليها الشكوك والريبة والحذر والعجز، وظلت جزءاً من نزاع مفتوح على مر العلاقات اللبنانية-السورية بسبب سوء تفاهم تاريخي وجغرافي واقتصادي وسياسي لم ينكفئ في الخمسينات والستينات والسبعينات. وعقداً بعد آخر كان يثقل عليها انهيار الثقة ما خلا محطات نادرة.رابعاً: يعول الكتاب على مقابلات شخصية مع رجال الحقب الأربع، وعلى وثائق عسكرية ومحاضر اجتماعات من شأنها أن تحدد ليس دور هؤلاء وتأثيرهم في إدارة السلطة آنذاك، وإنما كذلك كتابة سيرة الاستخبارات العسكرية اللبنانية.