"الحرب في الجنوب ساخنة على الحدود اليمنية، لمواجهة الثورة الناشئة في جنوب الجزيرة العربية، والمدّ الناصري المخيف. الراديو وسيلة التواصل الوحيد مع العالم يسمع خفية في عزبة الغرباء، وكان أهالي قرية قصية في أعالي السروات، يلتفون حول جهاز خشبي، نصب في دولاب بجدار تأتي منه تلك الأنباء وأناشيد وأغاني، والنار الملتهبة لسن أدوات الزرع و...
قراءة الكل
"الحرب في الجنوب ساخنة على الحدود اليمنية، لمواجهة الثورة الناشئة في جنوب الجزيرة العربية، والمدّ الناصري المخيف. الراديو وسيلة التواصل الوحيد مع العالم يسمع خفية في عزبة الغرباء، وكان أهالي قرية قصية في أعالي السروات، يلتفون حول جهاز خشبي، نصب في دولاب بجدار تأتي منه تلك الأنباء وأناشيد وأغاني، والنار الملتهبة لسن أدوات الزرع والحصاد، فتزيد سخونة أجسادهم وتسري خيالاتهم وحيداً في هذه المدينة. الوجوه غير الوجوه، وزميلاً غير الزميل يقول له كلمة جارحة مزقت شعوره.. يا زيدي، إرجع لبلادك! الخوف من قوة الزميل البدنية، أصبحت شيئاً من الماضي. الأيام الأولى في بداية السنة، كافية لجعل لسانه يخرس الى نهاية السنة، لولا أن نفذ في عمالة يمنية بساحة الصفاة القصاص، قالت الصحف والراديو أنها هي التي خرّبت بمتفجرات، شهدتها أحياء متنوعة في مدينة الرياض، قطعت رؤوسهم بالسيف، وصلبوا على عواميد الكهرباء في الشوارع. كان أحدهم يشبه وجه قاسم اليماني، راعي مغسلة شارع المرقب.. يتوه صابر من الشوارع، يدوخ في طريق العودة من ساحة الصفاة، يفقد طاقيته في شوارع الحلّة (...).مشهد الدم المنساب على الرصيف، بيدو أحلام خارطة جديدة للوطن. وسماء ليل صحراء نجد صافية ساحرة. يجسد حكاية وحده فوق فراشه، يتقمص دور البطل على مسرح السطح، وصوتاً يطير به الى أعالي الجبال.. فتى قادم من رؤوس الجبال، عكّرت جوّه مستحدثات، فاقت قدرة وعيه بما حدث حوله، فالانكسار الذي منيت به الأمة في الحرب، حربٌ أخرى مقدسة للأرض، أرض فلسطين التي لم يختلف عليها القول هنا وهناك. أوجد هذا الشعور بالملل بين الناس، فالمطارات والمدن المصرية المدمرة، سببت هذا الوجوم، المنعكس على وجوه الناس في المقاهي والشوارع، دون أن يجرؤ أحداً مناقشة ما حدث بشكل علني، ورأى صابر صباح اليوم دموع بعض مدرسيه، وسمع همساً ببعض جمل احتجاجية، رافضة لاعنة ذلك الواقع المزري.. وساد الحزن واستشرى الخوف القاصف في العيون، وكبل العقول وكمّم الأفواه، وانصرف صابر الذي جاء هذا الحدث، ليمسه في الصميم، ليتابع مذاكرة دروسه، لينجح في الإمتحان القادم. فقد يشكل له مفترق طرق، احداها قد تعيده الى أرض البدايات."تحكي هذه الرواية قصة صابر الذي جاء من زمن بعيد الى هذه الدنيا، جاء قبل أن يخطفه جوّ تلك المدينة، لتأخذه من حياة بسيطة، ملؤها مخبئات طازجة، لغزلان جبلية متقافذة حرة، ترعى في الفيافي البعيدة، لتعصف به رياح الحياة، وترمي به في صحراء شاسعة، كطائر هدّه التعب، ففقد علياءه ورؤوس الجبال، ومراتع فرائسه السارحة، والتناغم في ذلك الفضاء المطلق. وقد وهبه الله من مكونات ومخلوقات، صخور وأشجار وطيور ونمل وحشرات، وبشر وحشد من حكايات عشق صبايا، وهاجس نواميس لمسها بين الناس في سكنات أهابهم، وجاءت له "بسمة" هكذا، كموجة فرح زفّها حظ مجهول. ابتسم مرة واحدة له في العمر، فكان كخيط يأتي لينقذه متأخراً دون نهاية.