إذا كان المرحوم الأستاذ علال الفاسي قدم للمكتبة الإسلامية المعاصرة من الدراسات المعمقة، والبحوث الرائدة، ما يشهد بكفايته العلمية، إطلاعا واستيعابا، واجتهادا وإبداعا، في مجال الدرس الفقهي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، فإنه من نحو آخر، أغنى ديوان الشعر المغربي الحديث بإسهامات دلت منذ أن أذاع صاحبها في الناس نماذجها الأولى، عل...
قراءة الكل
إذا كان المرحوم الأستاذ علال الفاسي قدم للمكتبة الإسلامية المعاصرة من الدراسات المعمقة، والبحوث الرائدة، ما يشهد بكفايته العلمية، إطلاعا واستيعابا، واجتهادا وإبداعا، في مجال الدرس الفقهي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، فإنه من نحو آخر، أغنى ديوان الشعر المغربي الحديث بإسهامات دلت منذ أن أذاع صاحبها في الناس نماذجها الأولى، على شاعرية مبدعة، ملتزمة، لفتت إليها أنظار النقاد يومئذ، فلم يملكوا إلا أن يثنوا عليها، وينوهوا بهاومع ذلك فإن ما تفتقت به هذه الشاعرية من إبداع حافل لم يحظ بعد، فيما نعلم، بدراسة تبلور أبعاده، وتكشف عن مضامينه، وتحدد خصائصه.ولعله أن تكون في مقدمة الحوائل التي نظن أنها قد تجعل الدارسين يتهيبون الخوض في هذا الإبداع الشعري وفرته وغزارته وكونه غير مجموع كله في ديوان مخطوط أو مطبوع. فإذا ذكرنا أن علال الفاسي نظم الشعر في سن مبكرة جدا، وأنه لم يكد يتجاوز الخامسة عشرة من عمره حتى جعل ينشره في الناس وينشده عليهم، وأنه لم ينقطع، بعد ذلك، وعلى مدى خمسة عقود من عمره، عن قرض الشعر وكتابته أمكننا أن نتصور مبلغ تلك الوفرة، ومقدار تلك الغزارة، فإذا أضفنا إلى هذا أن نصوصا غير قليلة من هذا النتاج تعتبر، اليوم، ضائعة أو في حكم الضياع بسبب ما عرف علال الفاسي من (الهجرات المتعددة من المنزل إلى السجن إلى النفي إلى التجول في آفاق الدنيا وأثناء تفتيش الشرطة وحجز أوراقه والعبث بكتبه) أمكننا، بعد ذلك، أن نتصور مدى ما قد يستشعره الباحثون من صعوبة وعسر في دراسة شعر علال الفاسي، يحملانهم على إرجاء هذا الدرس حتى تكتمل مادته بنشر الديوان وطبعه.على أن هذا، مع الإقرار بما قد يكون له من انعكاسات سلبية على أية محاولة تستهدف النظر في شعر علال الفاسي من هذه الزاوية أو تلك، لم يثننا، حين تلقينا من فضيلة الشيخ الدكتور ناصر بن عبد الكريم عميد كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض ورئيس اللجنة التحضيرية لندوة الأدب الإسلامي دعوته الكريمة للمشاركة في هذه الندوة، عن التفكير في درس (المضمون الإسلامي في شعر علال الفاسي) لاقتناعها بما قد يكشف عنه مثل هذا الدرس، حتى ولو لم تتوفر له المادة اللازمة والوقت الكافي، من إسهام مبكر لهذا الشاعر فيما تجتهد، اليوم، طائفة من النقاد والدارسين للتأريخ له، وتأصيل قواعده، وتأسيس نظرياته، ونعني بذلك (الأدب الإسلامي).ونحب أن نبادر، هنا، إلى القول بأن هذا البحث لا يطمح أن يكون أكثر من تسجيل استعراضي لبعض المحاور التي دار عليها المضمون الإسلامي في شعر علال الفاسي، لن نلتفت فيه، أي البحث، إلى ما يتصل بالمناحي الفنية لهذا الشعر من حيث لغته، وصياغته، وموسيقاه، وما إلى ذلك، وإنما سنصرف الاهتمام إلى النظر في جملة نماذج منه من حيث الموضوع والمضمون ليس إلا، كذلك لن يتوخى هذا البحث الاستقراء والاستقصاء فيما سيعرضه من تلك النماذج فليس في طوقنا ذلك الآن لما أسلفنا الإشارة إليه من وفرة شعر علال الفاسي وكونه غير مجموع في ديوان، لكننا نحسب أن فيما اجتهدنا في الوقوف عليه من نصوص عالج فيها علال المضمون الإسلامي يصلح لأن يكون مادة للدرس والبحث.ونحب أن نبادر، أيضا، إلى القول، هنا، بأن مدلول (المضمون الإسلامي) لا يقف، في تصورنا، عند حدود الموضوعات ذات الصلة المباشرة بالدين من مثل الحديث عن العقيدة وأثرها في بناء النفوس والمجتمعات، أو الحض على الاستقامة، والتقوى، والإيمان، أو مدح النبي صلى الله عليه وسلم، أو الاشادة بتاريخ الإسلام من خلال كبريات أحداثه ووقائعه، وإنما هو، أي المدلول، يستوعب هذا كله ويتجاوزه مستشرفا آفاقا أرحب من ذلك وأوسع، يستقطب فيها، من خلال تصور الشاعر الإسلامي الخاص والمتميز للوجود، والكون، والحياة، والمجتمع، والتاريخ، مضامين متنوعة يلتحم في ثناياها الوجدان الذاتي بالوجدان الجماعي في التزام واع بالأمانة التي يحمل الإنسان رسالتها على الأرض، واستشعار عميق بالخلافة التي ينهض بأعبائها في الحياة، وبذلك يندرج في إطار هذا المدلول ما اصطلح على تسميته الذاتي، والشعر الاجتماعي، والشعر السياسي، وهي أشعار تفرز، على تعدد موضوعاتها وتنوعها، حين يبدعها شاعر (يعيش المفاهيم الإسلامية بالفعل، وينفعل بالأشياء، والأشخاص، والأحداث، من خلال هذه المفاهيم، دون جهد مبذول منه ولا افتعال، بل دون قصد واع منه إلى هذا الانفعال) جملة معطيات ورؤى يتحدد، بالآن عينه، تفسيره لهذه الإشكاليات في أبعادها الزمنية الثلاثية : ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا.في ضوء هذا المدلول أردنا أن ننظر في جملة من أشعار علال الفاسي اختلفت من حيث المحاور التي دارت حولها، وتوحدت في كون المفاهيم التي عكستها، والرؤى التي طرحتها، مفاهيم ورؤى إسلامية. غير أننا رأينا ألا نباغث هذه الأشعار مباغثة وإنما نقدم لها بما يعين على فهمها ويساعد على استبطانها، فقدمنا، بين يدي هذه الدراسة بمدخل ضمناه، عرضا مركزا، أوجزناه ولم نخل، للمجالات التاريخية، والفكرية، والاجتماعية، التي نشأ علال الفاسي في كنفها وشب، فكانت لها انعكاسات مباشرة على فكره، وشعوره، ترددت أصداؤها في شعره كما ترددت في أشعار عصرييه، ثم عقبنا على ذلك باستجلاء خلفيته الفكرية - وهي رافد هام لشعره - التي رصدناها، منطلقين من النظر في بيئته وثقافته الإسلامية، عبر إحدى واجهاتها المتمثلة في مفهوماته للدين، والمجتمع، والوطن.أما الدراسة فقد عرضنا في أولها إلى الكشف عما كان لبيئة علال الفاسي وثقافته الإسلامية، فضلا عن ظروف العصر السياسية، والاجتماعية، والفكرية، من أثر في التزامه في شعره بقضايا أمته ومشاغلها، يخوض من أجل النهوض بها معارك ضد ما كان شاع في مجتمعه من ألوان الانحراف في العقيدة، والفكر، والسلوك، وضد التخلف والجهل المزمنين اللذين كانا أجهزا على مقدرات أمته، وضد الوجود الامبريالي الصليبي الذي كان غزا بلاده واستذل أهلها، ثم تتبعنا، بعد ذلك، المضمون الإسلامي في شعر علال الفاسي من خلال محاور ثلاثة، هي :أ - المحور الديني.ب - المحور الاجتماعي.ج - المحور الوطني.وذيلنا الدراسة بملحقات أدرجنا فيها نصوصا من أشعار علال الفاسي التي يتمثل فيها المضمون الإسلامي من خلال محاوره الثلاثة.نرجو أن تكون هذه الدراسة مقدمة لدراسات أوسع وأشمل في فن علال الفاسي الشعري. ومن الله سبحانه وتعالى نلتمس العون والسداد.