بالإمكان الجزم بأن الحضارة العربية بدأت في العصور التي سبقت ظهور الإسلام بنحو عشرين قرناً، وأن جذورها تمتد عميقة في الجزيرة العربية في قرون موغلة في القدم، وأنها تعد من حيث الأهمية كحضارة الفراعنة وحضارة البابليين والآشوريين، وأنها ساهمت في الحضارة الإنسانية، ولم تكن في عزلة عن العالم، بل اتصلت به عن طريق التجارة اتصالاً وثيقاً،...
قراءة الكل
بالإمكان الجزم بأن الحضارة العربية بدأت في العصور التي سبقت ظهور الإسلام بنحو عشرين قرناً، وأن جذورها تمتد عميقة في الجزيرة العربية في قرون موغلة في القدم، وأنها تعد من حيث الأهمية كحضارة الفراعنة وحضارة البابليين والآشوريين، وأنها ساهمت في الحضارة الإنسانية، ولم تكن في عزلة عن العالم، بل اتصلت به عن طريق التجارة اتصالاً وثيقاً، وأثرت فيه، وتأثرت به، وشاركت في الحياة البشرية مادياً وروحياً وبالإمكان القول بأن هذه الحضارة التي بدأت قبل الإسلام وتكاملت في الإسلام خلال العصور لا يمكن أن تسمى إلا بالحضارة العربية، ذلك لأن الحضارة العربية هي المؤثرة في الشعوب الإسلامية والأجنبية وفي لغاتها وأديانها وتقاليدها، يضاف إلى ذلك أن أصل منشئها هو الجزيرة العربية، وقد تأثرت بالعقلية العربية، والذهنية العربية، وبأسلوب التفكير العربي، ودونت ثقافتها باللغة العربية، ورسمت حروفها بالخط العربي المقدس، بالإضافة إلى ذلك يمكن الجزم بأن الحضارة العربية ليست من الحضارات المقلدة أو التبعية أو الذيلية، لأن التقليد يمنع الأصالة، ولأن المعرفة التبعية ليست معرفة حقيقية.وقد كان لهذه الحضارة العربية العريقة في جانبيها السياسي والروحي شخصية فذة، ونظم خاصة، وتشريعات رائعة تميزها عن سائر الحضارات قديمها وحديثها، فهي تختلف في مبادئها ومذاهبها وعقائدها عن سائر المبادئ والمذاهب والعقائد في العالم. فليست مذاهبها السياسية بالديموقراطية الغربية ولا أنظمتها الاقتصادية بالرأسمالية؛ لأن الزكاة تقلل من رأس المال باستمرار.بالإضافة إلى ذلك فقد وصلت هذه الحضارة العربية الإسلامية إلى المرتبة التي استطاعت فيه أن توجد بين الدين والدولة لأول مرة في التاريخ، واستطاعت أيضاً الجمع بين الدين والعلم، وبذلك حفظت للإنسان إيمانه ويقينه.وفي هذا الكتاب شرح مفصل لمزايا الحضارة العربية. وقد حاول المؤلف، وإظهاراً لشخصية تلك الحضارة أن يذكر ما أضافته إلى المعرفة وإلى الحضارة العالمية من أمور جديدة لا عهد للحضارات الأخرى بها، باعتبار أن الإضافة في العلوم الإنسانية والطبية والرياضية والطبيعية، والفلك تدل على الأصالة، وقد عمد المؤلف وتأكيداً على ذلك، مقارنة الحضارة العربية بالحضارات الأصيلة التي كانت قبلها والتي جاءت بعدها مؤكداً أن المكتشفات والمبتكرات العربية وتصحيح أغلاط من سبقهم من الأمم هما من الإضافات الحضارية المهمة التي أضافتها الأمة العربية إلى الحضارة العالمية.وقد حاول المؤلف أن يكون موضوعياً في كل الآراء والبحوث التي دونها في كتابه هذا سواء كانت مقتبسة من الغير أم مما تمّ له التوصل إليه في بحوثه، وتتبعاته الشخصية، لذا عمد في كثير من الأحيان إلى مناقشة بعض هذه الآراء ونقدها وتقليبها على وجوهها المختلفة، كما حاول عرض البعض الآخر منها للأخذ به أورده أو مناقشته؛ لا سيما تلك البحوث والآراء الخاصة التي توصل إليها ونشرها في بعض مؤلفاته من كتب ورسائل وبحوث، وحاول من ناحية ثانية الإشارة إلى تأثيرها العظيم في أمم الشرق والغرب مستنيراً بآراء الباحثين من المستشرقين، والعلماء الغربيين المنصفين الذين ثمّنوا الحضارة العربية، وأشادوا بقيمتها وعمقها وتنوعها وتسامحها. ومما ينبغي ملاحظته، أن مجموعة الآراء التي اشتمل عليها الكتاب تتكون إما من رأي تمّ للمؤلف اقتباسه من علماء العرب القدماء أو المعاصرين أو من العلماء المسلمين أو من الباحثين الغربيين، وأما من رأي توصل إليه المؤلف بنفسه نتيجة ملاحظاته الشخصية وتتبعاته العلمية، واستنتاجاته الخاصة المبنية على البحث والتحدي الدائبين خلال تدريسه مادة الحضارة العربية والتأريخ الإسلامي.