منذ أكثر من نصف قرن، وضع العلماء الغربيون دراسة الأسطورة، ضمن منظور يتباين على التباين، حسبما نرى، مع منظور القرن التاسع عشر، فبدلاً من أن ينظروا إليها، مثل أسلافهم، ويعتبروها بمعناها الشائع، حكاية من الحكايات وكلاماً ملفقاً ووهماً، قبلوها وفهموها بالطريقة التي فهمتها بها مجتمعات الأزمنة الغابرة، حيث كانت، بخلاف ذلك، تعني "تاريخ...
قراءة الكل
منذ أكثر من نصف قرن، وضع العلماء الغربيون دراسة الأسطورة، ضمن منظور يتباين على التباين، حسبما نرى، مع منظور القرن التاسع عشر، فبدلاً من أن ينظروا إليها، مثل أسلافهم، ويعتبروها بمعناها الشائع، حكاية من الحكايات وكلاماً ملفقاً ووهماً، قبلوها وفهموها بالطريقة التي فهمتها بها مجتمعات الأزمنة الغابرة، حيث كانت، بخلاف ذلك، تعني "تاريخاً حقيقياً". وقبل كل شيء، كل ذلك التاريخ عالي الشأن، لأنه مقدس، ونموذجي وغني الدلالة.غير أن هذه القيمة الدلالية الجديدة الممنوحة إلى لفظ الأسطورة تجعل استعمالها في اللغة الدارجة، عرضة للالتباس الشديد. ذلك أن هذا اللفظ مازال يستعمله الناس، في أيامنا، للدلالة على "الخيال" أو "الوهم"، بمقدار ما يستعمل بالمعنى الآخر، الذي بات مألوفاً، على وجه الخصوص، عند علماء الأجناس: وعلماء التاريخ، وتاريخ الأديان، إنه المعنى الذي يفيدان الأسطورة هي "تراث مقدس"، ووحي أولي، وطراز نموذجي".وما ستتحرص عليه الأبحاث التالية، هو الحديث عن تاريخ الدلالات المختلفة، التي أخذتها كلمة "اسطورة" في كل من العالم القديم والعالم المسيحي. نحن نعلم أن اليونان أفرغوا الأسطورة، تدريجياً، من كل قيمة دينية وميتافيزيائية، ابتداء من إكسينوفون، الذي كان أول من انتقد ورفض العبارات الميتولوجية الموجهة إلى الآلهة، والمستخدمة من قبل هرميروس وهزيودر. إن التعارض بين الأسطورة واللوغوس (العقل) من جهة، وبينهما وبين التاريخ من جهة أخرى، آل بالأسطورة إلى الدلالة على كل ما ليس موجوداً حقاً.من جهتهما، رأت اليهودية والمسيحية إن كل قضية لا تلقى التبرير أو الإثبات والتصديق في أحد العهدين: القديم والجديد، إنما ترجع إلى مجال "الأكذوبة" و"الوهم".أما نحن فلم نفهم الأسطورة حسب هذا المعنى، (مع أنه الأوسع انتشاراً في اللغة الدارجة)، وبكل تأكيد، ليست المرحلة العقلية، أو الحقبة التاريخية، التي كانت فيهما الأسطورة تعني "تخيلاً" هي التي تحظى باهتمامنا. لهذا ستتناول دراستنا، في المقام الأول، المجتمعات التي تميزت فيها الأسطورة بالحياة، أو ظلت فيها حية، حتى هذه الأيام: بمعنى أنها قدمت نماذج للسلوك الإنساني، وأعطت، بالنتيجة، للوجود قيمة ومعنى.