مؤلف الكتاب، الأديب والصحافي والمترجم المشهور كامل يوسف حسين، الذي نعرفه جيداً من خلال مكتبة ترجماته التي بلغت نحو سبعين كتاباً حتى الآن، وقد تنوّعت هذه الكتب ما بين الفلسفة والفكر والأدب، ولكنه ليس تنوّعا عشوائيا بمقدار ما يشبه مشروعاً ثقافياً فكرياً وتنويرياً في آن واحد.مؤلّفه الجديد «الطريق إلى اللا نهاية» هو بمثابة استكمال ل...
قراءة الكل
مؤلف الكتاب، الأديب والصحافي والمترجم المشهور كامل يوسف حسين، الذي نعرفه جيداً من خلال مكتبة ترجماته التي بلغت نحو سبعين كتاباً حتى الآن، وقد تنوّعت هذه الكتب ما بين الفلسفة والفكر والأدب، ولكنه ليس تنوّعا عشوائيا بمقدار ما يشبه مشروعاً ثقافياً فكرياً وتنويرياً في آن واحد.مؤلّفه الجديد «الطريق إلى اللا نهاية» هو بمثابة استكمال لمشروعه في قراءة السينما اليابانية، حيث نتعرف من خلاله على ياسوجيرو أوزو الذي اشتهر بأنه صاحب «السينما المضادة». ولد ياسو جيرو أوزو عام 1903 لتاجر أسمدة ياباني، وكان أصغر أخوته الخمسة، وفي عام 1913 تمّ إرساله مع امّه وأخوته للإقامة في «ماتسوزاكا» مسقط رأس أبيه في «ناجويا» حيث تلقّى تعليمه بينما تابع الأب عمله في طوكيو، ولم يعد إلى طوكيو إلاّ بعد عقد من السنين محروماً من رؤية أبيه، ليلتحق بعدها بالعمل كمساعد مصوّر، ثمّ في نهاية عام 1926 عمل كمساعد مخرج مع أحد المخرجين الكوميديين بطلّب منه، ويوضّح المؤلّف أسباب هذا الطلب الغريب بأن أحد أفلام «أوكوبو» سمحت بانطلاق حسّ العبث واللهو لدى أوزو.«الطريق إلى اللا نهاية» عتبة أولى وسمة دلالية مركزية تشير، إلى الطريق الطويل التي قطعها فنان السينما الياباني ياسوجيرو أوزو، ولكنه طريق لا يذهب باستقامة كسائر الطرق، وإنما في شبه دائرة تبدأ من حيث تنتهي باتجاه جديد، يعمل من خلاله لاستكمال رحلته في هذا العالم الصعب الجميل، وبتعبيره أيضاً، كان مخلصاً لعمله، مقصياً حياته الخاصة نحو الهامش بزخم عاطفي دار في غالبيته حول الآباء والأبناء الذين كبروا، مما حدا بالمؤلّف لأن يتساءل عن إمكانية انسجام مثل هذا الطرح عن تهميش أوزو لحياته الخاصّة؟وسيناقش المؤلّف هذه المسألة بعد استعراض العديد من آراء النقّاد الذين تابعوا مسيرته الفنية، ولينطلق بعهدها نحو مسيرته الإبداعية منذ البدايات الأولى وتفرّق شعاب الطريق، فيستعرض لنا أسماء الأفلام الصامتة الثلاثة والثلاثين التي أخرجها، وسيختار للتحليل النقدي ثمانية أفلام منها: سيف التوبة، تخرّجت ولكن..، حياة موظف، رسبت ولكن.. جوقة طوكيو، ولدت ولكن..، امرأة من طوكيو، ونزل في طوكيو.ومع بداية الحرب اليابانية ـ الصينية 1937 سوف يُستدعى للخدمة العسكرية، وسيرتحل طويلاً لمدة عامين كاملين، ليعود بعدها في صيف عام 1939 إلى اليابان، ولكنه في وقت لاحق ومع بداية الحرب العالمية الثانية، سوف يتمّ إرساله من جديد إلى سنغافورة لإخراج أفلام دعائية لصالح الجيش، وهناك ستتاح له فرصة مشاهدة نحو مئة فيلم كان الجيش الياباني قد صادرها، ومنها: عناقيد الغضب، العربة، ما أشدّ خضرة وادينا، طريق التبغ لجون فورد، الممر الشمالي لكينج فيدو، ربيكا لهيتشكوك، رجل من الغرب، الثعالب الصغيرة، فانتازيا، وذهب مع الريح لوايلر.وفي هذا الصدد يذكر المؤلّف أن الفيلم الذي أثّر كثيراً في أوزو هو «المواطن كين» لويلز، حيث مضى يشاهده مراراً وتكراراً متابعاً تقنياته ومؤثّراته. وبعد أسر دام نحو عام، سيعود أوزو إلى اليابان في 1946 ليجد أن الدمار والخراب طاول طوكيو ومسقط رأسه، وأن قسماً كبيراً من السكان قضى نحبه، ولكنه سينهض من هذا الدمار ليبدأ في إنجاز ستة أفلام جديدة هي على التوالي: الكلّية مكان جميل، الابن الوحيد، ما الذي نسيته السيدة، عائلة الأخوة والأخوات، تودا كان أباً، ودجاجة في الريح.ويؤكّد المؤلّف أن هذه الأفلام الستة كلّها مهمّة، ولكنه سوف يحلل ثلاثة منها مبتدئاً بـ «الابن الوحيد» الذي أنتجته شركة «شوتشيكو» عبر استوديوهاتها في كاماتا، ويدور حول امرأة لا يقدّم لها زوجها يد العون على الإطلاق، فتكدح لتربّي وتدرّس ابنها الوحيد، وبعد تخرّجه من الجامعة في طوكيو، سوف تنفق كلّ مدّخراتها لزيارته، فتجده قد تزوج وأنجب ابناً، وينفق معظم ماله في محاولة الترفيه عنها في العاصمة.وإلى ذلك فإننا سوف نطالع جانباً من رؤية الناقد كيجو يوشيدا في سينما أوزو بقوله: أن أوزو في أفلامه لا يقدّم قصصاً ولا حبكات، وإنما هو في أفضل حالاته، يقدّم لمحة من حكاية، نظراً لأن رؤيته للأشياء تعتمد على عدسة الكاميرا كبديل للعين، بينما في الواقع تربطهما علاقة تناقض أكيدة، لأن الكاميرا، برأيه، تنكر حركة العين، والصورة الفيلمية تختار لنفسها موضوعاً واحداً داخل رحابة الكون، تقطعه إلى كوادر متجاهلة باقي العالم. ومن ناحية أخرى، فإن يوشيدا يلفت الأنظار إلى أن أوزو يبرز باعتباره رجل السينما المضادة، الذي يرفض توظيف السلطة والشركات التجارية للسينما.أما في فصله اللاحق «تأملات القسم» يتّجه المؤلّف نحو جماليات أوزو الفنية من خلال مفهومي: الصمت والتأمّل؛ الصمت الذي يتجلّى على شكل إضافات من الإيجاز الجريء، كأن يدفع بشخصياته نحن وضعية الصمت والتأمّل في لقطات اشتهرت واعتبرت من كلاسيكيات السينما العالمية، ومثال هذه اللقطات على سبيل المثال: مشهد الأم وقد اتّشحت بالوحدة والصمت في نهاية «الابن الوحيد»، ومشهد الابن وهو يمضي وحيداً في القطار حاملاً رماد أبيه في فيلم «كان أباً» وغير ذلك من المشاهد.أما في فصل «بهجة الغسق» فإنه سوف يقارب الجماليات الإبداعية في سينما أوزو، والتي تتمثّل في مفهوم «الوابي»، حيث يشبهه المؤلّف ب«تبرعم الخاص من العام، أي من فرع الخوخ سيطلّ الربيع، وبالتالي فإن «الوابي» بتعبيره أداة روحية تشير إلى أن الخالد مستوعب في العابر والفاني، ومثاله جمالياً: وضع زهرة الأقحوان في جرّة فخارية، أو وضع السوسنة البيضاء والنقية في زجاجة ساكي بسيطة، وفي هذا الصدد يشير المؤلّف أن أفلام أوزو تحفل بلمحات عديدة من هذا النوع، فتجعل تجربته بمثابة تجربة روحية دينية تعبّر في خلاصتها عن: العرفان، الإجلال، الحبّ، وإرادة الطاعة والخدمة، على نحو طقوسي.وإلى ذلك فإنه في هذا الفصل سوف يرصد من جديد ستة أفلام تعبّر عن هذه المرحلة من تاريخ أوزو، وهي كلّها كما يؤكّد، على جانب كبير من الأهمية في مجمل إبداعه، إلاّ أنه ولغرض منهجي سيتناول ثلاثة منها: زهرة الاعتدال، أعشاب طافية، وأصيل خريفيّ. حيث يتعرّض في الفيلم الأول لقضية اجتماعية حول حرية اختيار الشريك، حيث يساور الأب الذي ربّى ابنته قلق على مستقبل ابنته في اختيارها لزوجها دون إخباره، وإذ يبدي أوزو تعاطفاً مع هذا الأبّ، إلاّ أنه في الوقت نفسه، يوجّه انتقاداً غير مباشر لنظام العائلة اليابانية، ولكنه إلى ذلك موقف يبتعد عن التحيّز إلى جانب بعينه.وفي صدد تناوله لفيلم «أعشاب طافية» يذكر المؤلّف انه لديه خمس عشرة ملاحظة حول هذا الفيلم، وهي على كلّ حال تقنية تحليلية تعتمد الترقيم المقطعي، لأكثر قضايا الفيلم ورؤاه الجمالية، ومن ذلك: حرص أوزو الشديد على جماليات الصورة، وعلى الاكتمال الفائق لكل لقطة، حتّى لتكاد هذه اللقطات تشبه اللوحات الموقّعة جنباً إلى جنب، ومن ذلك أيضاً أن الحوار يدور باقتضاب شأن العديد من أفلامه المنتمية إلى مرحلة الروائع الأخيرة، كما أن الفيلم يلتقط من زاوية لا تتغيّر تقريباً، بالإضافة إلى استغلاله الجانب المسرحيّ من جوانب المسكن الياباني التقليدي، وغير ذلك من الملاحظات التي يتابعها المؤلّف بتقنية جميلة التي بإمكان القارئ متابعتها من خلال الكتاب.وفي الفصل الختامي المسمّى بـ «السحر الهارب» يؤكّد المؤلّف أن أوزو كان يقيس سيناريوهات أفلامه بالزمن الذي أمضاه في كتابتها، وهي إلى ذلك تحمل هاجس عبور نهر الحياة إلى الشاطئ الآخر. وعلى الرغم من أوزو لكم يكن يدري أنه على وشك القيام بهذه الرحلة، إلاّ أن الأمر تمّ، وأنه بعد مرور سنوات طويلة على رحيله، فإن اليابانيين ظلّوا ينظرون إليه على أنه المخرج الأكثر يابانية من جميع مخرجيهم، ولكن هذا لم يمنع النقاد والسينمائيين الشباب من انتقاده ووصفه بالرجعية نظراً لاهتمامه بالشرائح العليا من البورجوازية اليابانية، إلاّ أن الأمر بتحليل المؤلّف لا يعدو أكثر من حمّى أيديولوجية أصابت العالم في ستينات القرن الماضي، ثمّ ما لبثت أن انحسرت في وقت لاحق.