"في تلك الأثناء استيقظ المريض وراح يحادث اندريس في صوت خافت. لم يكن القس، وهو في أعمق أغوار الفتنة والغواية، يغافل عن التسمع لما يقول: إني أنوت مطمئناً، يا صغيري أندريس، يا له من سلام بعجز الذهن عن تصوره! عادت الشكوى تئن قوية عنيفة في قلب آلان: "هل غرر به إلى هذا الحد؟ هل خدع إلى هذا المدى؟ يا لسخرية القدر! يا لذراية المصير! كيف...
قراءة الكل
"في تلك الأثناء استيقظ المريض وراح يحادث اندريس في صوت خافت. لم يكن القس، وهو في أعمق أغوار الفتنة والغواية، يغافل عن التسمع لما يقول: إني أنوت مطمئناً، يا صغيري أندريس، يا له من سلام بعجز الذهن عن تصوره! عادت الشكوى تئن قوية عنيفة في قلب آلان: "هل غرر به إلى هذا الحد؟ هل خدع إلى هذا المدى؟ يا لسخرية القدر! يا لذراية المصير! كيف ينجو ذلك المجرم الأثيم، وكيف يهلك هو كل ذاك الهلاك؟" على الرغم من العاصفة الهوجاء التي تضطرب على صفحة روحه، ارتفع صوت خفي، خنقه البعد، وارتد من أعماق الهاوية، فجاء يطرق شغاف قلبه ليقول له: "أنا هنا، فلا تخف شيئاً، أنا في هذا القلب، أنا فيه إلى الأبد". أسند الراعي الشاب رأسه الذي يسيل منه العرق إلى عارضة النافذة، كم من مرة رأى في أثناء ليالي سهده ذلك الصليب الذي ترسمه عارضة النافذة على ظلمة الليلة! وكم من مرة خر متعبداً أمامه! إنه يحس في جبهته أثر المسمار الضخم البارز في قدم المصلوب كما يحس بالدم المتدفق ساخناً من تلك القدم القديسة يبلل شعره. نعم، إنه لم يولد لهذه المهمة، إن الحب يملأ قلبه، ويكاد يخنقه، أغلق عينيه. ناداه جرادير فانتفض،واقترب من فراش الرجل المريض، اندريس واقف إلى جوار السرير وقد أحنى رأسه، تنحى إلى الخلف عند اقتراب الراعي. ما الذي أستطيع أن أقدمه لك في هذا العالم، لقاء ما قدمته لي؟ ولكني واثق من الوعد الذي قطعه ابني على نفسه... أنت تفهمني.. لا تخشى بعد اليوم منه شيئاً.. أليس كذلك، يا أندريس! أعد عليه بنفسك ما وعدتني به. أشار الفتى إشارة القبول والموافقة من غير أن يلتفت برأسه، وساد السكون العميق، في أرجاء تلك الحجرة، فقطعه الراعي بقوله: سأنهي أنا السهر حتى الصباح، اذهب أنت لتنام، أما أنا، فقد تعودت ذلك، قام اندريس وقبل أباه في جبهته، نزل معه آلان وجذب مزلاج الباب على الدرجات البالية، التي يكسو القمر بضوئه كل ما فيها من تجاعيد، وقف الشابان كل منهما في مواجهة الآخر. وفي تلك اللحظة اكتشفا من النظرة البسيطة التي تبادلاها ومن مس اليد بينهما مقدار ما يجمعهما من حب عميق".