الحمد لله ذي الكمال والإحسان، معلم الإنسان ما لم يعلم من التنزيل والفرقان، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ورثة الفردوس والجنان.أما بعــد. .فالعروض من المواد التي تحتاج – أكثر ما تحتاج – إلى مهارة الأستاذ، ونباهة الطالب، وأقل ما تحتاج إلى أذن موسيقية، وفي ذلك مشكلة الكثيرين ممن يفتقدون هذه الأذن، إنها موهبة من الله تعالى...
قراءة الكل
الحمد لله ذي الكمال والإحسان، معلم الإنسان ما لم يعلم من التنزيل والفرقان، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ورثة الفردوس والجنان.أما بعــد. .فالعروض من المواد التي تحتاج – أكثر ما تحتاج – إلى مهارة الأستاذ، ونباهة الطالب، وأقل ما تحتاج إلى أذن موسيقية، وفي ذلك مشكلة الكثيرين ممن يفتقدون هذه الأذن، إنها موهبة من الله تعالى خصّ بها بعض خلقه دون البعض الآخر. .وإذ أعود إلى علاقتي بالعروض، فإنّي أعود معك إلى دراستي الثانوية، التي اطلعت فيها على شذرات يسيرة من علم العروض، بيد أنّ المحك الرئيس مع هذا العلم بدأ في السنة الجامعية الأولى، إذ دخلت قسم اللغة العربية – بكلية الآداب – جامعة بغداد، فأصبح العروض مادة دراسية ينجح فيها مَنْ ينجح، ويرسب فيها مَنْ يرسب، حينها طلّ علينا أستاذنا المرحوم الدكتور عبد الحميد الراضي متأبطاً كتابه (شرح تحفة الخليل )، فبدأنا ندرس العروض من خلال الـ( تحفة )، وقد مَنّ الله سبحانه عليّ أنْ أكون أحد المتذوقين لهذه المادة، الشغوفين بتلمس بحور الشعر العربي، المولعين بتقطيعها، وبعد حين تواصل الاهتمام، وتجددت الصحبة مرة أخرى، وقد امتد بنا قطار العمر، ونحن طلاب في مرحلة الدكتوراه عام 1989م، فكانت لنا وقفة مع العروض في مادة (دراسات عروضية )، فنهلنا من الفكر الخصب لأستاذنا الدكتور عبد المنعم أحمد صالح، وكان بحق عروضياً بارعاً، وهكذا توطدت العلاقة مع العروض، وترسخت موضوعاته، وتوسعت مداركنا بخصوصه.وفي مجال التدريس الجامعي، وبعد أن انتدبت للتدريس في المعهد العالي لإعداد المعلمين ببني وليد في الجماهيرية الليبية من قبل جامعتي الجامعة الإسلامية ببغداد، كلفت بتدريس مادة العروض للطلبة في المرحلة الجامعية الرابعة بقسم اللغة العربية.وقد شاءت الظروف أن يكون توزيع المواد الدراسية على أساتذة القسم في يوم استراحتي، إذ وزّع المسؤول عن قسم التدريس في المعهد المواد على الأساتذة، حينها رفض الجميع تدريس العروض، ليبقى أمر تدريسه معلقاً لحين حضوري في اليوم الثاني، وحين أوضح المسؤول لي الصورة، واعتذر الزملاء الثلاثة (عراقيان ومصري) تدريس العروض، بادرت إلى قبول تدريسه.ولا أخفيك سراً أنّي أقبل المخاطرة، بل لعلي أسعى لها أحياناً، لا لشقاوة فيَّ – معاذ الله – بل حُباً في التجريب والاكتشاف، تجريب النفس، واكتشاف الذات، ومن هنا أعددت عُدّتي، وهيأت ما أملك من وسائل تعينني على تدريس هذه المادة، ولك أن تتصور ماذا أملك وأنا في بلد الغربة سوى البحث في أروقة المكتبات عما كُتب عن العروض، وما تختزن الذاكرة من موضوعاته.وهكذا بدأت مشوار رحلتي التدريسية للعروض، واضعاً في حساباتي النجاح أو الفشل لا سامح الله، النجاح في تقريب المادة وتبسيطها للطلبة، والفشل في نفورهم منها، بيد أنّي وضعت أمامي المقولة التي طالما آمنت بها والتي فحواها : أن لا شيء يغنيك عن فهم المادة إلا تدريسها، وبدأت مع طلبتي أختط لنفسي منهجاً خاصاً في تدريس العروض، من إعداد للمحاضرات والتهيؤ لها والتدرج معهم بخطوات محسوبة منذ البداية، خطوة خطوة، أتدرج فيها رويداً رويداً، وقد شجعني في ذلك قبول الطلبة لطريقتي، وتفاعلهم معها، وهكذا بدأت المغالق بالانفتاح، والتوجسات بالألفة، راضياً بالمغامرة، وقانعاً بالنتائج.وفي عملي في كلية التربية بصعدة في جامعة صنعاء، أوكلت لي مهمة تدريس العروض، فوجدت حال الطلبة هنا كحالهم هناك، وأعني بـ( الحال) هنا إمكانات الطلبة العلمية بخصوص هذه المادة وقبولها، أو حتى في النفور منها، بيد أنّ الفارق بين الاثنين الاختلاف في المستوى الدراسي، وإن كان أثر ذلك ليس كبيراً.وبعد. .. فإني اعتمدت في تأليف هذا الكتاب على محاضراتي في هذا العلم التي أعددتها قبل سنوات، معتمداً على ما توافر لديّ من كتب وما تراكم خبرة، ولا أنكر مدى سعادتي وأنا أتلمس أثر المعرفة العروضية التي بدأت تعطي ثمارها عند أكثر الطلبة وليس جلّهم، حتى أن هذا (الأكثر) إذ أطلب منهم نظم بيت شعري على البحر الكامل (مثلاً)، فإنهم يأتون بكلمات موزونة على وفق تفعيلاته المعروفة، وإن كانت تغيب عن أبياتهم المنظومة تلك الصورة الشعرية، وتنقصها الجوانب الفنية، وتخونها اللغة الشعرية ذات البعد الدلالي والرمزي، المهم أنهم ينظمون كلاماً موزوناً، وهذا رصيدي في النجاح.أما منهجي في تأليف الكتاب فقد اختططته بعد أن أفدت من الجوانب التطبيقية التي عملتها في تدريس هذه المادة، فبدأته بالإشارة إلى ماهية العروض، ووضع قواعده، وبواعث وضع تلك القواعد، ثم انتقلت للحديث عن البيت الشعري لأوضّح أنواعه، وأبيّن حدوده.وبعد ذلك كان للمقاطع العروضية (الجمل العروضية) وقفة مناسبة لي معها في الكتاب، ولا ننسى أهميتها بوصفها العتبة الأهم – كما نظن – في مادة العروض، وقد كان للزحافات والعلل حصة وافية في عملنا.أما الدوائر العروضية فكانت – هي الأخرى – محط اهتمامنا، فقد تابعناها مبيّنين البحور الشعرية التي تنفك من كل دائرة، لننتهي إلى القسم الرئيس ذلك هو الحديث عن البحور الشعرية لنجعلها مقسمة على وفق مخصوص، إذ بدأنا بالبحور الصافية (ذات التفعيلة الواحدة المكررة) لاعتقادنا أنها أسهل في التعلم بما فيها من تفعيلات متماثلة، وأيسر من البحور المركبة، تلك البحور التي اعتمدت على أكثر من تفعيلة على وفق مخصوص من التقسيم الهندسي المنظم.أما القافية فقد كانت محطتنا الأخيرة التي أخذت منا الجهد العلمي تعريفاً وحروفاً وحركات وعيوباً.ومن الوفاء أن أشكر الأخ الأستاذ الدكتور رافع أسعد عبد الحليم لمراجعته العمل، والشكر كل الشكر لمن مدّ لي يد العون من الأساتذة الزملاء فلهم مني جميعاً المحبة والعرفان.كما أسدي تقديري وشكري للأخ عبد الحكيم محمد كعيبه الذي أسهم بشكل فاعل وكبير في إخراج هذا المؤلف بصورته المرضية.وختاماً أقدم هذا المنهل الصافي لكلّ طالب علم، ومثقف مستنير، ومتعلم طموح يطلب معرفة علم العروض، راجياً أن أكون قد قدمت كل ما هو مثمر ومفيد.) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ( صدق الله العظيم.