لقد دُرس الفكر النهضوي العربي من منظورات مختلفة ومتباينة. ولكن، وعلى أهمية ذلك لم يحظ المنظور السوسيولوجي بما يستحق من دور في المقاربة والتحليل. ولئن كان ثمة من استخدمه في دراساته وأبحاثه، فإنه بالمقابل لم يخضعه لضبط معرفي يرسم أشكال الترابط البنيوي والوظيفي وحدوده بين البنى المجتمعية، وبين ما تستولده من منظومات فكرية ومفهومية، ...
قراءة الكل
لقد دُرس الفكر النهضوي العربي من منظورات مختلفة ومتباينة. ولكن، وعلى أهمية ذلك لم يحظ المنظور السوسيولوجي بما يستحق من دور في المقاربة والتحليل. ولئن كان ثمة من استخدمه في دراساته وأبحاثه، فإنه بالمقابل لم يخضعه لضبط معرفي يرسم أشكال الترابط البنيوي والوظيفي وحدوده بين البنى المجتمعية، وبين ما تستولده من منظومات فكرية ومفهومية، أو من اتجاهات وتيارات فكرية معينة.أما هذا العمل البحثي الذي هو طي هذا الكتاب، فهو ينطلق بالدرجة الأولى من المنظور السوسيولوجي، ومما يرتبط به من شروط بحثية معلومة سواء على صعيد الإشكالية أم المنهج، أم أدوات النظر والتحليل. وفي ديدنه البحثي يحاول هذا العمل توفير الشروط الأكاديمية المطلوبة، ليشكل مساهمة جدية أو ربما إضافة عملية يبقى الفكر النهضوي بحاجة إليها في مطلق الأحوال. وهو ينشد بالدرجة الأولى سبر بعض الجوانب من الواقع الإشكالي للفكر النهضوي العربي، ولا يتعدى ذلك باتجاه الحديث التقويمي أو الحكمي عن فشل النهضة العربية، ومن ثم عن حلول "خلاصية" من الأزمة لا مكان لها في عالم البحث العلمي؛ إلا أنه يسعى إلى التوصل لاستنتاجات أكاديمية أصيلة، أي إلى استنتاجات ترتبط أصالتها بالمسار البحثي تبعاً للقدر الذي يصيبه من إضافات علمية جديدة. وقد اختار الباحث اثنين من تيارات الفكر النهضوي هما: التيار الديني الإصلاحي والتيار الليبرالي. وذلك لتشكيلهما العلامة الأكثر بروزاً في المرحلة التأسيسية للنهضة العربية، ولأنهما تشاركا في صنع مساحة فكرية واسعة، أكثر من غيرهما، ولقيا تقريباً المصير نفسه في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، فضلاً عن أن طروحاتهم أخذت تكتسي أهميتها الزائدة في الفكر العربي العاصر منذ الثمانينات، وتحضر بقوة لدى الأغلب في تياراته واتجاهاته. أما مقاربة الباحث لهما، فقد انتظمت في ضوء محطات سياق تاريخي ومجتمعي منذ منتصف التاسع عشر حتى نهاية الثمانينات من القرن العشرين، أي في مرحلة نشأتهما وتأسيسهما، كما في مرحلة تطورهما من خلال عدد من نماذج الكتابة فيهما في ظل السياق نفسه. محدداً من ثم مجال بحثه بالمجتمعات العربية التي احتضنت نشأة الفكر النهضوي وتنامي تياراته قبل سواهما، فضلاً عما عرفته أكثر من غيرها من ديناميات تفاعلية متبادلة جعلتها تنتظم في موقع الكل التاريخي المحوري في المدى العربي الأشمل.