يُمثل العنف العائلي سلوكاً مرفوضاً ومجرما في معظم إن لم يكن في كل دول العالم , وذلك لما له من إنعكاسات سلبية على كيان الاسرة ووظائفها ولما يترتب عليه من آثار ضارة و سلبية تهدد أمن وسلامة أفراد الأسر وبالتالي المجتمع بكامله.ورغم أن العنف العائلي من الظواهر التي تمتد بجدورها في أغوار التاريخ والثقافات والحضارات بدءاً من الجريمة ال...
قراءة الكل
يُمثل العنف العائلي سلوكاً مرفوضاً ومجرما في معظم إن لم يكن في كل دول العالم , وذلك لما له من إنعكاسات سلبية على كيان الاسرة ووظائفها ولما يترتب عليه من آثار ضارة و سلبية تهدد أمن وسلامة أفراد الأسر وبالتالي المجتمع بكامله.ورغم أن العنف العائلي من الظواهر التي تمتد بجدورها في أغوار التاريخ والثقافات والحضارات بدءاً من الجريمة العائلية الاولى التي وقعت بين الاخوين قابيل وهابيل , إلا أنه ظل سلوكاً مرفوضاً مشينا في معظم تداعياته.ويشكل العنف داخل نطاق الأسرة سلوكاً مضطرباً ويشعر أفرادها بالقلق والاضطهاد ويمثل تهديداً خطيراً للطرف الذي يقع عليه العنف وهو في الغالب المرأة والطفل وهما أكثر أفراد العائلة عرضة للعنف وضحاياه.ولقد كان للدين الاسلامي الحنيف الريادة في نبذ العنف العائلي والحث على طيب العشرة وحسن الخلق والعفو عند المقدرة والابتعاد عن الغلظه والقسوة فقد جاء في قوله تعالى : (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك )).وقوله تعالى: ((والكاظمين الغيط والعافين عن الناس ))ويقف المجتمع الدولي موقفاً مضاداً للعنف في العلاقات العائلية ورافضا له : فقد جاء في الاعلان العالمي لحقوق الانسان التأكيد على إحترام حقوق الانسان وحريته وضمان أمنه واستقراره حتى يسود العدل والسلام. وقد اشار هذا الاعلان في ديباجته إلى أنه (( لمَّا كان تناسي حقوق الانسان والاستهانة بها قد أفضيا إلى أعمال همجية آدت الضمير الإنساني, فإن غاية ما يرنوا اليه عامة البشر هو إنبثاق عالم يتمتع فيه الفرد ( ذكراً كان أم أنثى) بالحرية ويتحرر من الفزع والفاقه.وتوالت الجهود الدولية في التصدي لظاهرة العنف عموماً والعنف العائلي على وجه الخصوص , وجسدت الاتفاقية الدولية لمنع كافة آشكال التميز ضد المرأة(C.D.A.W )موقفا دولياً مانعاً للعنف ومضاداً له.كذلك شددت الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي أصدرتها الأمم المتحدة عام 1989 وصادقت عليها معظم دول العالم بما فيها ليبيا على منع كافة أشكال العنف ضد الطفل , نصت المادة (19) من هذه الاتفاقية على أن تتخذ الدول الاطراف جميع التدابير التشريعية والاداريه والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية , والإهمال أو المعاملة المنطوية على إهمال وإساءة المعاملة او الاستغلال بما في ذلك الاساءة الجنسية. وفي كل الأحوال فإن العديد من الدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والتربوية والنفسية تؤكد على خطورة العنف العائلي وانعكاساته السلبية على الفرد في ذاته, وعلى الاسرة في استقرارها ,وعلى المجتمع في نموه وتقدمه. ولهذا وصف الكاتب الفرنسي ج.م. دومياك العنف العائلي بالبشاعة بقوله: إن العنف بشع ومع هذا فهو يستهوى البعض لأنه يمكن القوى من إقامة علاقات نافعة له مع أولئك الذين هم أضعف منه من غير أن يبذل أي جهد أو يعمل عملاً شاقاً أو أن يضيع وقته في النقاش والتفاوض.وفي التراث الفلسفي من عهد إنكسماندريس ومروراً بهيجل وسارتر ونيتشه وغيرهم نجد أن العنف مرفوض وهو لا يقتصر على ممتلكات الشخص أو على أمنه الجسمي بل يشمل أيضاً كيانه وحريته بل وأحياناً حتى وجوده نفسه. ويتضمن العنف العائلي في تفاعلاته إعادة انتاج العنف بإعتبار أن العنف يولد العنف وأسوأ أنواع العنف هو ما يعرف بالعنف المشتط أو العنف المغالي فيه سواء كان هذا العنف موجهاً ضد أفراد الأسرة أو يقوم به أحد أفراد الأسرة ضد نفسه وأقساه الإنتحار.وإن مما تجدر ملاحظته أن العنف العائلي ليس بالظاهرة السهلة أو البسيطة فهو سلوك غاية في التركيب والتعقيد سواء من حيث البواعث أو من حيث الآثار والانعكاسات أو من حيث التصدي والعلاج كما وأن أي محاولة لتبسيط ظاهرة العنف العائلي قد تقود إلى نتائج غاية في السطحية تتعامل مع المسألة في بعدها الظاهري وتجهل أو تتجاهل تجدّرها الاجتماعي والنفسي والتربوي والسياسي والروحي والعلائقي والاقتصادي والتعليمي والإعلامي وغيرها.ومن هنا يأتي هذا المؤلف كمقاربة تحليلية تفسيرية لمسألة العنف العائلي في إطار المرجعية العلمية والثقافية المحلية والعالمية. إنها المقاربة التي تحاول قدر المستطاع التعامل الموضوعي الحذر دون التورط في الأحكام المجازية ودون الإلتزام بأسلوب المقاضاة. مقاربة هي هذه المحاولة في بعدها التحليلي والتفسيري وهذفها تسليط الضوء على مسلكيات الإنسان القاهر والمقهور وهو يمارس العنف أو يكون ضحية له أو هو يتدرع بأن يمارسه لصالح الممارس ضده أو بحجة إنفلات زمام التحكم في نزوات الغضب التي يشعر بأنه أنما دُفع إليها دفعاً .والعنف العائلي منطلق للعديد من مظاهر العنف في منظومة العلاقات في بقية مؤسسات المجتمع وذلك لأن الأسرة نواة المجتمع ولأنها المؤسسة الإجتماعية الأولى في تربية الإنسان وتنشئته وبالتالي يتطلب التعامل مع العنف في العلاقات الإجتماعية البدء من مؤسسة الأسرة وقاية وعلاجاً .