الحمدُ لله الذي هداني لهذا، وما كُنت لأهتدي لولا أن هداني الله، وما توفيقي إلاّ بالله. فلقد بدأت في كتابة هذا الكتاب قبل خمس سنوات، حين شعرت بقلّةِ المؤلّفات المتخصصة التي تشرح النظام الدستوري الأردني وتُبيّن نظام الحكم في الأردن ومدى حاجة كلّيات الحقوق في الأردنّ التي زاد عددها على أربع عشرة كلّية وفيها حوالي ستّة آلاف طالب وطا...
قراءة الكل
الحمدُ لله الذي هداني لهذا، وما كُنت لأهتدي لولا أن هداني الله، وما توفيقي إلاّ بالله. فلقد بدأت في كتابة هذا الكتاب قبل خمس سنوات، حين شعرت بقلّةِ المؤلّفات المتخصصة التي تشرح النظام الدستوري الأردني وتُبيّن نظام الحكم في الأردن ومدى حاجة كلّيات الحقوق في الأردنّ التي زاد عددها على أربع عشرة كلّية وفيها حوالي ستّة آلاف طالب وطالبة، يقوم على تدريسهم والإشراف على بحوثهم ما يُقارب مائتين وخمسين عضو هيئة تدريس. وليست كلّيات الحقوق وحاجاتها من الكتب القانونية هي التي تدفعني وزملائي إلى تأليف الكتب وكتابة البحوث فحسب، وإنّما هناك مؤسسات قانونيّة متعددة تتكوّن من مجموعة كبيرة من رجال القانون هم بحاجة أيضاً إلى الكتب والبحوث التي يجدون فيها ضالتهم ويدعمون بها آراءهم سواءً كانوا قضاة أم محامين أم مستشارين أم سياسيين. وبالرغم من أنّ النظام الدستوري الأردني كان من الموضوعات التي تولّيت تدريسها على مدار الثمانية والعشرين عاماً في كلّ من جامعة مؤتة والجامعة الأردنيّة وجامعة عمّان العربية وأكاديمية الشرطة الملكيّة وكلّية الحرب والمعهد القضائي معتمداً على مجموعة محددة من المؤلفات، إلاّ أن مهمتي في إعداد هذا الكتاب لم تكن سهلة وميسّرة، بل كانت مليئة بالصعوبات والتحدّيات، وتمثلت في قلّة عدد المراجع وحساسية بعض الموضوعات واختلاف مكوّنات ومستويات الفئات المستهدفة منه والتعديلات الدستورية اللاحقة التي أُجريت في 1/1/2011 والتي صدرت في 28/9/2011 ونشرت في الجريدة الرسمية بتاريخ 1/10/2011 وطالت أكثر من ثُلث مواد الدستور، والإسراف في تغيير وتعديل التشريعات الأساسية ذات العلاقة بالنظام الدستوري الأردني خاصّة قانون الانتخاب لمجلس النوّاب رقم (25) لسنة 2012 المعدّل بقانون رقم (28) لسنة 2012 وصدور قانون الهيئة المستقلّة للانتخاب رقم (11) لسنة 2012 وقانون المحكمة الدستورية رقم (15) لسنة 2012 وغيرها. لا بل إنّ زيادة الوعي الدستوري لدى العامّة والخاصّة ــ خاصّة بعد ما يُسمّى بالربيع العربي ــ قد زاد من مساحة المسؤولية وثقل المهمّة والجهد المطلوب. لقد كان للتعديلات الدستورية وصدور كثير من القوانين التي أشرنا إلى البعض منها آثار مهمة في الواقع الدستوري والسياسي الأردني تمثّلت بإجراء انتخابات نيابية لمجلس النوّاب السابع عشر 23/1/2013 وفق أحكام التعديلات الدستورية الحديثة والتي أصبحت سارية المفعول في 1/1/2011 وقانون الانتخاب لمجلس النواب رقم (25) لسنة 2012 المعدّل بإشراف الهيئة المستقّلة للانتخاب، وما تضمنته هذه التشريعات من أحكام متطوّرة لضمان سلامة العملية الانتخابية ونزاهتها وما قرّرته هذه الأحكام من إشراف قضائي على غالبية مراحلها وانتهاء في حقّ القضاء ممثلاً بمحكمة الاستئناف في الفصل في صحّة نيابة عضو مجلس النوّاب. أعود فأقول بأنّه قد واجهتني صعوبات كثيرة وتحدّيات جمّة أثناء إعداد هذا الكتاب كانت توقفني تارّةً وتؤخّرني عن الكتابة تارّةً أُخرى، لكنني ما ألبث أن أستجمع قوتي وفكري وأعيش بين مراجعي وأبحاثي لأعود مترجلاً وممتطياً قلمي للكتابة في أصعب الميادين العلميّة التي أصبحت تتزاحم فيها الآراء وتتلاطم فيها الأهواء، لكن الوفاء للعلم وللوطن وللمواطن كان مصدر إلهام وقوة للمضيّ في هذا المشوار الصعب. وسوف يتبيّن للقارئ بعد اطّلاعه على هذا المؤلف مثلما يطلع على مؤلفات زملائي في القانون الدستوري والنظام الدستوري الأردني أن أستاذ الجامعة وبخاصّة أستاذ القانون الدستوري لا يعيش ــ كما يرى البعض ــ في برج عاجي وإنّما في ميدان العمل السياسي البنّاء، لأنّه إذا كانت السياسة هي إدارتنا وكرامتنا فإنّ علم القانون بحث وتفكير بعيد عن كلّ أسباب التأثير. وإذا كان رجال الحكم يبحرون في سفينتهم في بحر السياسة، فإنّ رجال العلم يجب ألاّ يكونوا في تلك السفينة ــ ليس هرباً أو استعلاءً ــ وإنّما لأنه يجب أن يكونوا في المنارة التي توجّه بضوئها السفينة إلى برّ الأمان. لقد حاولت في عرض موضوعات هذا الكتاب أن أشرح ما هو كائن على ضوء النصوص الدستورية وأن أبيّن ما يجب أن يكون على ضوء النظريات والاتجاهات الفقهية، لأضع أمام القارئ رُؤى مستقبليّة يمكن أن تعينه وتساعده كلاً في موقعه سواءً أكان أكاديمياً أم قانونياً أم سياسياً. توقّفت عند بعض الموضوعات فشرحتها شرحاً مفصّلاً يتلاءَم ما يتطلبه الموضوع والموقف، وعرضت البعض منها عرضاً موجزاً ينسجم مع طبيعته وخصوصيّته، وكلّي أمل أن يحقّق هذا المنهج خدمة للجميع. إنّ الكتابة في النظام الدستوري الأردني لا تتطلب من المؤلّف الوقوف عند شرح الدستور الأردني لعام 1952 مع تعديلاته التي زادت على ستين تعديلاً وما يحويه هذا الدستور من قواعد وأحكام تبيّن الدولة ونظام الحكم فيها والسلطات الثلاث والعلاقة فيما بينها وبين المواطن وضمانات حُسن إدارة الدولة، ومسؤولية الحاكم والمحكوم فيها فحسب، بل إنّ فهم النظام الدستوري لأي دولة لا يقف عند معرفة مكوناته القانونيّة المجرّدة بل يمتدّ إلى ما يحيط به من مؤسسّات ونشاطات غير رسميّة لها تأثير كبير فيه وعلى مصادر متعدّدة يُسميها الفقه الدستوري بالقوى المستترة، كجماعات الضغط بأنواعها، والأحزاب السياسية بأيديولوجيّاتها، والصحافة بتوجّهاتها وانتماءاتها، والرأي العامّ بمكوناته واتّجاهاته مع ما لهذه المؤسسّات الرسميّة وغير الرسميّة من استحقاقات عرفية وارتباطات وجذور تاريخية. وحيث إنّ النظام الدستوري الأردني الحالي المبني على نصوص دستور المملكة الأردنيّة الهاشميّة لعام 1952 مع تعديلات يمثّل مرحلة دستورية متطوّرة لمراحل تاريخية ودستورية مرّت بها الدولة الأردنيّة، فقد آثرت أن يُقسم هذا الكتاب إلى قسمين: القسـم الأول: وأعرض فيه التطوّر التاريخي والدستوري للدولة الأردنيّـة (1921 ــ 1952). القسـم الثاني وأُخصّصه للنظام الدستوري للمملكة الأردنيّة الهاشميّة في ظلّ دستور (1952) المعدّل. وبهذا أكون وبتوفيق من الله قدْ قدّمت للمكتبة القانونية العربيّة والمكتبة القانونيّة الأردنيّة مؤلّفاً خامساً أُضيفه إلى مؤلّفاتي الأربع السابقة وهي «الأحزاب السياسية ودورها في النظم السياسية المعاصرة» و«مبادئ في النظم السياسية» و«الوجيز في القانون الدستوري» و«الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري» الذي طُبع اثنتا عشرة طبعة ابتداءً من عام 2000 وحتّى عام 2013، بالإضافة إلى ما يزيد على خمسين بحثاً علمياً وورقة عمل قُدّمت في مؤتمرات وندوات أردنيّة وعالمية. وأخيراً إلى أساتذتي عهداً بالوفاء ودعاءً بالرحمة والمغفرة، وإلى زملائي العلماء الأفاضل وإلى أبنائي الأعزّاء الذين اختاروا التعليم رسالةً لهم، أُوصيكم بتقوى الله والمحافظة على علمكم وقُدُسيّة رسالتكم، استمروا بالعطاء والصدق والوفاء لأمّتكم ووطنكم وأبنائكم، تمسّكوا بكرامتكم وعزّة نفسكم احتراماً لقُدسيّة ورفعة علمكم، كرامة وعزّة الإمام الشافعي رحمه الله حين بَعث إليه الخليفة العبّاسي هارون الرشيد طالباً منه أن يأتي ليُدَرِّسَ أبناءَه في قصره، فردَّ عليه الإمام الشافعي قائلاً: «يا أمير المؤمنين إنَّ العلم لا يأتي وإنّما يؤتى إليه»، وموضوعيّة وتواضع أبي حنيفة النعمان إذ كان يُردِّدُ دائماً: «علمنا هذا رأي فمن جاء بأفضل منه قبلنا».