الاستشارات الادارية

ليست الكتابة ترفاً يلهو بها أصحابها كما يلهو بالكلمات المتقاطعة رجل أراد أن يقتل وقته، بل أنها مرتبطة بالمشكلات التي يحياها الناس حياة يكتنفها العناء، فيريدون حلاً لها حتى تصفو لهم المشارب، وبمقدار ما نجدها على صلة عضوية وثيقة بإحدى تلك المشكلات نقول أنها قد أدت غرضها واستوفت شروطها بكل ما في ذلك من معان.لكن الكتابة في الإدارة ومشكلات المنظمات لا تقع كلها على صعيد واحد من الأهمية، بل إنها تتفاوت في درجة أهميتها تفاوتاً ملحوظاً، فهي في إدارة نشاط الاستشارات تنال أولوية على غيرها، بحكم ما لهذا النشاط من أهمية لا على صعيد معالجة الأحداث اليومية للمنظمات والتعامل مع تفصيلات المواقف الفعلية الآنية كما يفعل القاضي وهو أمام قضية يريد أن يصدر فيها حكماً، بل على صعيد تتبع جذور المشكلة وإزالة أسبابها الكامنة.أجل، لقد رغبت في الكتابة في هذا الموضوع، حينما لاحظت كثيراً من كتَّاب الإدارة العرب يتعاملون مع هذا الموضوع المهم شأنهم شأن من يتحدث عن الطقس دون أن يفعل شيئاً إزاءه، فشرح ووصف هذه المهنة في الأدب الإداري العربي وتبيان دورها في توفير المساعدة لرجال الأعمال وللمؤسسات العامة وللحكومات على حد سواء ما زال في بدايته، وكل ما يمكن أن يعثر عليه الباحث لا يتعدى بعض الدراسات غير المتكاملة وبعض الأوراق المبعثرة هنا وهناك.على حين يختلف الحال في الدول الأجنبية، إذ أن هناك ثلاثاً من المؤسسات المهتمة كتبت عن هذا الموضوع هي: جمعية مهندسي الاستشارات الإدارية الأمريكية (ACME) ومعهد المستشارين الإداريين (IMC) والمعهد الأمريكي للمحاسبين العامين القانونيين (AICPA).وانطلاقاً مما تقدم، فقد لمست هناك حاجة ملحة لمثل هذا الكتاب، الذي جاء معبراً ومستوفياً لخبرة عملية استقيتها من خلال عملي في المنظمة العربية للتنمية الإدارية لسنوات عدة مضت، منها سنوات اضطلعت فيها بمسؤولية نشاط الاستشارات في المنظمة. وهو يهدف - على أية حال - إلى توفير نظرة عامة عن المهنة، وذلك لا بغرض الوصول إلى فهم أكثر للاستشارة الإدارية من قبل العامة؛ بل لمساعدة المستفيدين من هذه الخدمات في الإفادة منها والانتفاع بها، والأهم من ذلك مساعدة المهتمين من الناس الذين سيتخذون من هذا العمل مهنة لهم.يشتمل هذا الكتاب على ستة فصول، يتضمن الفصل الأول عرضاً وافياً للاستشارة الإدارية، تعريفها، ونشأتها وتطورها، ونماذجها، وأنواعها، والمنظمات والفئات التي تقدمها، ومجالاتها، والأشكال التنظيمية والقانونية للوحدات الاستشارية ومجالات خدماتها الفنية.ويناقش الفصل الثاني العملية الاستشارية، بدءاً من التخطيط لها إلى أن يتم تنفيذها وتطبيق نتائجها. ويأتي الفصل الثالث ليبين عرض التقرير الاستشاري ويعرض الفصل الرابع واقع الاستشارة الإدارية في الدول العربية، ويقدم الفصل الخامس حالات مختارة من الخبرة العربية في الاستشارة الإدارية، ويتحدث الفصل السادس والأخير، عن المنظمة العربية للتنمية الإدارية كبيت خبرة عربي في مجال الاستشارات الإدارية.إن الإضافة التي يمكن أن يقدمها هذا الكتاب واضحة وملموسة، فمكتبة الإدارة العربية ما زالت تفتقر إلى مرجع أساسي في إدارة الاستشارات، وأملي أن تقوم معاهد ومدارس ومراكز الإدارة والإنتاجية وكليات العلوم الإدارية والإدارة الصناعية والعلوم الأخرى ذات الصلة بإدخال مادة " إدارة الاستشارات " في مناهجها، مساهمة منها في تكوين المستشارين المحتملين. وأملي كذلك أن يجد ممارس الإدارة في الكتاب ما يعينه في التعرف على المنهجية التي تقوم الاستشارة وفقاً لها، لكي تكون بالتالي أكثر فائدة ومردودية.إن تعظيم الفائدة من الاستشارات الإدارية، هي الهدف الذي يرمي إليه هذا الكتاب. على أنني أسارع إلى القول بأن كفاءة إدارة النشاط الاستشاري لا يمكن اكتسابها بين عشية وضحاها، كما أن مجرد قراءة هذا الكتاب لن تكون كافية للتوصل إلى هذه الغاية. وعلى أية حال فإن الأسلوب والمنهج الذي طرحه الكتاب هو الذي لابد منه للسير في الطريق الصحيح الذي يؤدي في النهاية إلى بلوغ الهدف المطلوب.إن هذا الكتاب في واقع الأمر، جهد مشترك ونتيجة لعمل جماعي قمت بإنجازه بصورته الحالية، ومثل أي عمل مشترك فإنه يفيد من أفكار الزملاء، ولذا فإني أجد نفسي مديناً بالاعتراف الخاص لبعض الأخوة الذين بذلوا جهداً ملموساً في المساعدة، وأخصُ منهم السيد "صلاح عبد الكريم الصفدي" (رحمه الله)، سكرتير تحرير المجلة العربية للإدارة بالمنظمة العربية للتنمية الإدارية (وكيل ديوان الموظفين الأسبق) لقيامه مشكوراً بقراءة محفوظ هذا الكتاب وإبداء الملاحظات القيمة عليه.