مع الشاعر خوجة نعود إلى الأصالة، فإذا عطاؤه انبجاس خيّر كما هلّ الديم، أو فوح العطر الداريني. ذلك أن السفير خوجة رافقه عطاء مشرق في الأداء، فهو جمّ المواهب، ضارب في الأبعاد حتى الأغوار، تختفي وراء موهبته الشعرية دقة بيان وأصول راسخة، لينهض معه قول منغًّم متين اللحمة، ممدود النفس على كثير من الرواء والصفاء والضياء. ولا عجب أن طاب...
قراءة الكل
مع الشاعر خوجة نعود إلى الأصالة، فإذا عطاؤه انبجاس خيّر كما هلّ الديم، أو فوح العطر الداريني. ذلك أن السفير خوجة رافقه عطاء مشرق في الأداء، فهو جمّ المواهب، ضارب في الأبعاد حتى الأغوار، تختفي وراء موهبته الشعرية دقة بيان وأصول راسخة، لينهض معه قول منغًّم متين اللحمة، ممدود النفس على كثير من الرواء والصفاء والضياء. ولا عجب أن طاب له الطواف على عالم شعراء العربية. وشعر عبد العزيز محيي الدين خوجة، إلى هذا، فن كلامي، إبداع، ولا جدال في أصالته.والأصالة بالمفهوم العربي، تعني الرصيد الثري المتكامل نمواً وتجديداً. والتجربة الشعرية تتجدد فيها القدرات والطاقات النفسية والفكرية الملأى بخمائر العمر والسنين والحياة، الحاضرة دائماً وأبداً لفعل الإنتاج والخلق. فعندما تقرأ في شعر خوجة، وخاصة ديوان "إلى من أهواه" و"أسفار الرؤيا"، تحسّ بتجارب شعرية، تتفاعل فيها موضوعات إنسانية شتى تتخذ ألقاً يواكب صدق المعافاة واللغة الصافية، واللقاء الحميم بين الشاعر، وبين شعراء كثرٍ منهم الشعراء الصوفيين، تجمعهم التجربة واللغة والصورة، ولكن لكل منهم منحاه الخاص.في قصائده جوانب كثيرة تبرز شخصيته المستقلة عن الشعراء العرب، حتى ولو التقت الأفكار ببعضها، وبخاصة الصوفية والوجدانية. جمع القدر تعب عبد العزيز في دواوينه. حمل هموماً لم يصرخ علناً، ولكنه لم يستطع أن يخفي ثورة تجتاح الأشكال الشعرية ولا سيما التقليدية منها، فبعد أن رآها قسم كبير، وبخاصة شعراء "مجلة شعر" بأنها عاجزة عن استيعاب التجارب العصرية المركبة المعقدة.أما معاناته فجادّة تحِلّ معضلات إنسانية فكرية، فلسفية، هي من مستلزمات البشر والعصر الحاضر الشاهد فعلياً. وشعر عبد العزيز خوجة يضطلع بهمّ الثورة الأدبية، الثورة الشكلية، والمعاناة الإنسانية. اضطلاعه قادر، وهو مجهز بوسائل النجاح المتوافر، وقد نجح إلى حدٍّ بعيد في ثورته التعبيرية. نجح برصيده الثقافي والشعري، وإبداع صيغه العربية، التي مكنها بالأصالة والمحتد، بالإضافة إلى التراث، وكلماته مدفوعة بزخم لطاقات، فهو يبقى على استيعاب أسفار الرؤى، ومجالات الإيحاء والصور النابضة بالحيوية والرموز. طوّع التراكيب الشعرية لمسايرة الحركة الإيقاعية، كما فعل أدونيس، وبلند حيدر وخليل حاوي، وغيرهم الكثير، ووقف عند الحركة الإيقاعية الداخلية الآتية من أغوار ورقاع جذور التجربة الذاتية، غنائية التجربة أم معاناة فكرية أو فلسفية، أو صوفية أو وجدانية.تلفت القارئ في شعرة خوجة هذه الصيغ، البالغة الذروة في الروعة والدقة والغنائية في تصوير الألق الذي يأخذه عبر المدى، ورفيق العطر، والتوق إلى النجاة المنسية والجناح المفلوش في الكون الرحيب. ولنقرأ معاً: "ويأخذني ألق.. عبر المدى ورفيف عطر قد عبق، وتفتحت جذلى تويجات الأفق ونسيتُ توقي للنجاة كأنني قد صرتُ في الملكوت برقاً للغرق، لا حاجة لي كي أنوء على عصا وهمٍ ذبيح وجناحي المفرود غطّى رحبة الكون الفسيح". ألا يشعر القارئ أن هذه الكلمات، في هذا السياق من عمق الوجدان وأبعاد الرمزية؟ كلماته هنا تولد من جديد، ثم يلد صوراً حديثة، وإيحاءات مبتكرة لا عهد لنا بها. هذا وجه من وجوه الجدّة والنجاح في شعر عبد العزيز محيي الدين حوجة، فما هو الشأن في الجوانب الأخرى من هذه التجربة الشعرية؟! هذا ما سيستشفه القارئ من هذه القراءة المتأنية والنقدية في شعر "شاعر الرؤيا والتجديد" في هذا الكتاب.