من المعلوم أن سبيل الوصول إلى أفكار ذاتية معينة عن الإسلام، سبيل سائغة ميسرة لا تحتاج إلى معاناة ولا إلى كبير جهد وبحث. بل أن أي قراءة صحافية واطلاعات سطحية، يمكن أن توصل صاحبها إلى حصيلة من الأفكار الكثيرة، بقطع النظر عن صحتها وبطلانها. أما سبيل الوصول إلى واقع الإسلام كما هو في عقيدته وأحكامه، فسبيل شاقة تحتاج إلى دراسة دقيق...
قراءة الكل
من المعلوم أن سبيل الوصول إلى أفكار ذاتية معينة عن الإسلام، سبيل سائغة ميسرة لا تحتاج إلى معاناة ولا إلى كبير جهد وبحث. بل أن أي قراءة صحافية واطلاعات سطحية، يمكن أن توصل صاحبها إلى حصيلة من الأفكار الكثيرة، بقطع النظر عن صحتها وبطلانها. أما سبيل الوصول إلى واقع الإسلام كما هو في عقيدته وأحكامه، فسبيل شاقة تحتاج إلى دراسة دقيقة لطائفة من العلوم، وإلى هضمها، وربط ما بينها وبين مصادرها من النصوص الثابتة ومدركاتها بقواعد تفسير النصوص.
ولسوء الحظ، فإن أكثر الذين يجدون الإسلام، اليوم، ويتحدثون عن إعجابهم به، يعتمدون في ذلك على أفكار مضيئة، تصوروها عنه، على حد فهمهم وقناعاتهم التي تجمعت عواملها لديهم من هنا وهناك. كما أن كثيراً من الذين على أفكار قائمة، تصور وصاهم الآخرون على حدّ فهمهم وقناعاتهم التي تجمعت عواملها من هنا وهناك. المهم أن أياً من هاتين الفئتين لم تقيدا أفكارها وتصوراتها بضوابط الحقائق العلمية الثابتة، بل أطلقت لأفكارها العنان، وتركتها تذهب في تصوراتها المذهب الذي تشاء. والأفكار المؤيدة للإسلام في هذه الحالة، ليست أقل سوءاً وخطراً على الإسلام من الأفكار المقاومة له. ألم يقولوا: عدو عاقل، خير من صديق جاهل؟ ومن هنا كان الصراع الدائر بين الأفكار الإسلامية المؤيدة للإسلام والأفكار الإسلامية القادمة له، صراعاً دائرياً ولا نهاية له. إذ أن كلاً من الطرفين ينزح من حصيلة فكره وتصوراته، لا من واقع الإسلام وحقيقته.
ولعل الجدل الدائر اليوم بين فئات الإسلاميين بعضهم مع بعض وبين المسلمين الملتزمين من جانب والمسلمين المتحررين من الإسلام من جانب آخر، حول تصوراتهم المتناقضة عن فلسفة الجهاد وطبيعته في الإسلام، واحد من أبرز الأمثلة على ذلك. من هذا المنطلق رأى الدكتور البوطي أنه لا بد من جلاء هذا الغموض الذي يعتري هذا الموضوع الذي يمثل مشكلة واسعة كبرى في حياتنا الإسلامية اليوم، فكان هذا الكتاب الذي يتضمن حقيقة الجهاد الإسلامي وأنواعه، وأهدافه وضوابطه، وذلك من خلال عرض الأحكام الفقهية المتفق عليها من قبل جمهور علماء المسلمين، ان لم يكن من قبل جميعهم، مؤيدة بدلائلها من النصوص الثابتة، ومن كليات المبادئ أو القواعد الفقهية والأصولية.
ويقول الدكتور البوطي بأنه من خلال طرحه لموضوع الجهاد وأحكامه الفقهية في كتابه هذا لم يعتمد على رؤية فكرية يقاوم بها رؤية فكرية أخرى، وإنما هو وضع الموازين الفقهية التي لا مجال لرفضها، حكماً عدلاً، يهدي إلى الحق، وينهي جدل الأفكار الذاتية المتعارضة. فمن كان موقتاً، كما هو شأن كل مسلم، بأن للإسلام مصادره الثابتة المتفق عليها.
وأن لهذه المصادر ثمرات علمية يانعة، تتمثل في الأحكام الفقهية التي جمعها العلماء الأعلام من أدلتها التفصيلية، بجدارة ودقة، ثم اكتسب الإجماع أن اتفاق الجمهور، فيلسوف يذعن لهذه الأحكام، معرضاً عن تصوراته وأفكاره الشاردة وراء سورها. أما من كان لا يقيم وزناً لهذه الأحكام ولا لمصادرها، ومن ثم فهو لا يرى الإسلام أكثر من مجموعة الأفكار التي يتبناها الناس عنه، مهما تعارضت أو اتفقت، فما هو من الإسلام الذي أنزله الله على عباده في شيء، ولعله لا ينتمي إليه من قريب أو بعيد. إذ هو لا يوقن بشيء أنزله الله على الناس ليفهموه فينفذوه. وإنما يوقن بأفكاره التي يحاول أن يبعثها بين الناس. ثم يلزمهم بها باسم الإسلام، الذي هو في اعتباره ليس إلا ظلاً تابعاً لتلك الأفكار. إلا أن من المسلمات أنه ليس هناك إسلاماً يتمثل في مجموعة الأفكار البشرية وتصوراتهم الذاتية المتناقضة بل لا سبيل للمنطق أن يوقن بمثل هذا اللغو. وإنما الإسلام، انصياع الإنسان لخطاب الله عز وجل، تدبراً وفهماً، ثم سلوكاً وتطبيقاً. وخطابه موجود ومسموع، ومعانيه ثابتة ومعروفة. ومن ثم ليس للفكر الإنساني أمامه إلا دور الفهم والاستيعاب.