نبذة النيل والفرات:مصنف هذا الديوان هو الشيخ محمد جابر المعروف بـ"حميد"، ولد شاعرنا في الكاظمية سنة 1222هـ، ونشأ فيها كما ينِأ أمثاله من طلاب العلوم الدينية، ولا بد أنه قد درس في تلك العلوم ومقدماتها الشيء الكثير، ولكنه اتجه إلى الشعر ,ألفه وأحبه منذ نعومة أظفاره، وترنم به وهو صبي حدث، واختار له أستاذاً في الأدب تخرج عليه هو الش...
قراءة الكل
نبذة النيل والفرات:مصنف هذا الديوان هو الشيخ محمد جابر المعروف بـ"حميد"، ولد شاعرنا في الكاظمية سنة 1222هـ، ونشأ فيها كما ينِأ أمثاله من طلاب العلوم الدينية، ولا بد أنه قد درس في تلك العلوم ومقدماتها الشيء الكثير، ولكنه اتجه إلى الشعر ,ألفه وأحبه منذ نعومة أظفاره، وترنم به وهو صبي حدث، واختار له أستاذاً في الأدب تخرج عليه هو الشاعر حبيب بن طالب الكاظمي المتوفي سنة 1263م، ثم كان لتردده على النجف أيام شبابه يد كبرى وأثر بارز في صقل قريحته ونضوج فكره.وهكذا كان له من هنا وهناك ما جعل منه الشاعر المجيد، حيث تجاوزت شهرته حدود الكاظمية وبغداد، النجف الموصل وإيران، حتى اعترف له قراؤه ونظراؤه بالتفوق في دنيا الأدب والسمو في آفاق الشعر، وهذا معاصره الشاعر عبد الباقي العمري بصفه بأنه "أستاذ الكل في هذه الصناعة، وملاذ الجل في ترويج هذه البضاعة، مكلل تيجان مفارق أهل البراعة، بما ينثره من الدر، وينظمه من الشعر، وينفثه من السحر، في معاقل العقول ومعاقد عقود اليراعة".وكانت مواهبه وملكاته الأدبية هي السبب الأول والأخير في ما نال من أعجاب وإكبار، كما كانت هذه المواهب والملكات هي السبب الأول والأخير أيضاً في تلك الصلات والروابط التي ربطته بسائر الأدباء والأسر العلمية ورجال الفضل في الكاظمية وبغداد وكربلاء والنجف وسامراء والموصل وإيران، وقد أنتجت هذه الصلات مجموعة قيمة من المطارحات والمساجلات الأدبية التي لو جمعت لكانت كتاباً من أنفس الكتب الأدبية المعبرة عن تلك الفترة من الزمن.وعلى الرغم من هذه السمعة الأدبية الكبرى التي نالها الكاظمي فإن أغلب شعره المتداول لا يدل على تلك الشاعرية المشتهرة عنه ويعود ذلك لسببين: أولهما: أنه كان لا يعتني بتهذيب شعره وتشذيبه كما يليق بشعر منسوب إليه، وإنما ينظم القصيدة أو القصائد المتشابهة ويقدمها لذوي المناسبة من دون أن يعيد فيها النظر أو يزيد التأمل، بل لم يكن يراعى فيها سوى المشاركة في المناسبة سواءاً أجاد القول فيها أو لم يجد.ثانيهما: أن جل شعره أصابه التغيير والتبديل أيام كان ناظمه غير مستقيم الفكر، حيث اعتقد بلزوم اجتناب جملة من حروف الهجاء نطقاً وكتابة وأسماها "حروف الوسوسة" مما لم نعلمه حتى الآن، وكان هذا الالتزام هو الضربة القاضية على القسم الجيد من شعره، لأنه كان يراجعه ويعيد النظر فيه فيغير كل كلمة فيها حرف أو أكثر من حروف الوسوسة ويبدلها بغيرها، وإن كانت بعيدة عن القوة أو الرقة أو السلامة اللغوية.ولهذين الأمرين نجد الآثار الباقية من شعر الكاظمي لا تشير إلى صحة ما كان لناظمها من الشهرة بين أدباء العراق وشعرائه، إلا ما قل منها كـ"تخميس الأزرية" وقصائد أخرى مبثوثة في تضاعيف الديوان.أما نثره فقد سلك فيه مسالك أهل عصره، وحاول الإكثار من استعمال المحسنات البديعية التي كانت متداولة يومذاك، ولكنه مع كل ذلك لا يعد من الصنف الممتاز.وشاءت الأقدار أن تفجع الأدب بهذا الأديب اللامع فأصيب بمرض عصبي شديد وهو في أوائل الثلث الأخير من عمره، وكان الشدة بحيث أنه سكن ستة أشهر تحت السماء في أعلى السطح مكشوف الرأس من دون أن يتكلم بكلمة واحدة، واستمر به هذا الداء مدة من الزمن، ثم تحسن بعلاج الأطباء فعاد إلى التكلم والاختلاط بالناس ولم يبرأ بالكلية، ويروي أنه كان يشتد عليه الداء في فصل الشتاء خاصة دون غيره من الفصول.ويقال بأن هذا الاختلال لم يكن مؤثراً على سلوكه وتصرفاته وحركاته وسكناته مطلقاً، ولذلك لم يكن يخشى منه أحد ولم يكن منقطعاً عن المجالس والاجتماعات العامة. كما يقال بأنه لم يترك نظم الشعر خلال فترات المرض كلها، ويروي بأنه قد تحسنت حالته الصحية في أواخر عمره.أما ديوانه الذي بين يدينا، فيقال بأنه لو اشتمل على كل شعره لكان في عدة مجلدات، ولكن مرض الشاعر وعدم اهتمامه بشعره قد ضيع عليه الكثير من مسوداته. وفي أخريات سنى حياته صمم على جمعه في ديوان وكتب له مقدمة مفصلة وجمع منه بضعة كراريس، ثم فاجأه الأجل قبل الإتمام فعادت أوراقه كلها إلى وريث بعيد عن تذوق الأدب، فدفعها بكاملها إلى الشيخ راضي آل ياسين، وكان معنياً يومذاك بتسجيل تاريخ شامل للكاظمية، فتفرغ سماحته لتنظيمها وجمع أشتاتها وترتيبها على الحروف الهجائية، ثم نقل مجموعة منها إلى المبيضة ابتداءً من حرف الهمزة إلى أواسط حرف الدال، فكانت مجلداً واحداً. ولما أصيبت دار الشيخ العم بالحريق عام 1370هـ كان مما اخترق جانب من مكتبة الدار، وهو الجانب الذي يضم -فيما يضم- تلك الأوراق فاحترقت كلها، ولم يسلم إلا المجلد الذي أشرنا إليه.لذلك كان علم المحقق "محمد حسن آل ياسين" الأساسي في الديوان بعد تحقيق نصه، ومقارنته بما يروى للشاعر من شعر في الكتب والمجاميع، وترجمة أعلامه وهو إتمامه إلى حرف الياء، بعد أن راجع في سبيله كثيراً من خزائن الكتب المطبوعة والمخطوطة في داخل الكاظمية وخارجها، ومستعيناً بعدد من الباحثين المعنيين بهذه الشؤون، فكان حصيلة كل ذلك هذا الديوان الكبير الذي يعبر أبلغ تعبير عن حقيقة هذا الشاعر المغمور.