منذ خمسينيات القرن الماضي، حين صار الحوار الأدبي نوعاً مستقلاً من التأليف، لازماً بصفة عامة وضرورياً تماماً في حالات محددة، لم يعد ما يقوله الأديب عن نصوصه وكتاباته ومقاصده محض محادثة بسيطة، بل اصبح فضاء للأداء الإبداعي والنقدي على حد سواء، وميداناً يتيج للمؤلف –خلال زمن الحوار، على الأقل- أن يكون قائداً أوركسترا لذاته، بذاته. ه...
قراءة الكل
منذ خمسينيات القرن الماضي، حين صار الحوار الأدبي نوعاً مستقلاً من التأليف، لازماً بصفة عامة وضرورياً تماماً في حالات محددة، لم يعد ما يقوله الأديب عن نصوصه وكتاباته ومقاصده محض محادثة بسيطة، بل اصبح فضاء للأداء الإبداعي والنقدي على حد سواء، وميداناً يتيج للمؤلف –خلال زمن الحوار، على الأقل- أن يكون قائداً أوركسترا لذاته، بذاته. هذا في يقيني، ما يؤديه قاسم حداد على امتداد حوارات الصفحات التالية، بعون من محاورين ذوي مراس في معرفة الوركسترا، وأفضل طرائف الإنصات إليها، وتحرير ذكي من سيد محمود، أحد أفضل محرري الصحافة الثقافية في العالم العربي.والحال أننا أمام كتاب حوارات فريد في التركيب، لأربعة أسباب جوهرية، بين أخرى ليست أقل أهمية: 1-أن صيغة الكتاب لا تقوم على تجميع عدد من الحوارات مع المؤلف، أجراها محاور واحد، أو على سلسلة حوارات معه، بتوقيع عدد من المحاورين، بل هو ببساطة أقرب إلى حوار داخل الحوار، يضيء مفهوم الحوار في حد ذاته، بقدر ما يدير حوارات (متبادلة، وليست البتة في صيغة سائل/مجيب فقط) بين قاسم حداد ومحاوريه.2-مادة الكتاب تعتمد، بالتالي على انتخاب بالغ الدقة، وعالي الحسياسية، لعدد من الأسئلة التي جاءت في حوارات، متغايرة السياقات متباينة الأمكنة والأزمنة، جرى انتقاؤها وتبويبها في فصول مرنة الموضوعات عريضة النكاق، ضمن منهجية تكاملية تضفي على تعدد أصواتها تناغماً أوركسترالياً رفيعاً.3-هذه التعددية في أصوات محاوري قاسم حداد لا تقتصر على تباينهم في الرأي وتغاير اهتماماتهم وأولويات ما يبحثون عنه عند الشاعر فحسب، بل هم يتعددون أيضاً على أسس وظيفية تخص موقع كل منهم في سيرورة التأليف والكتابة: منهم الشاعر والروائي، وبينهم الباحث، وفيهم المفكر، فضلاً عن الصحافي. وليس هذا بالتفصيل العابر إذا تفحص المرء، بانتباه أكبر، مدى ما يدخله موقع السائل من خصوصية على السؤال، وفي متابعة تفريعات السؤال على نحو خاص.4-قد تبدو الفصول وكأنها، للوهلة الأولى، تفصل بين موضوعة وأخرى وتصنف الأسئلة في نوع من التقسيم أو الأقسام. لكن الحال ليست هكذا، لأن الفصل الأول مثلاً، المعنون "موسيقى الحديد الحزين" يحتوي أسئلة حول القضايا التالية: النص، الكتابة والحياة، الشك، ولادة القصدية، البحث عن الوثوق، العمر، تجربة السجن اليومي، وأسطرة الواقع، حضور الوعي، العاطفة، العقل، لحظة الكتابة، الغموض في القصيدة، الحدس والحلم، ضمائر النص، الموت، السيرة الذاتية، الدور الاجتماعي للكاتب، الشاعر والصحافة، علاقات النثر والشعر في الكتابة، التنظير للشعر، الهاجس القصصي، القلق والقلق المطمئن، العزلة...وعلى امتداد هذه المنتخبات الحوارية، يظل قاسم حداد شاعراً أولاً وثانياً وعاشراً، قبل أن يبرهن على سوية عالية من اليقظة والوعي والشجاعة وحس الانشقاق والصراحة والوضوح، كما يظل في ممارسة هذه السجايا كلها: متماسكاً في اليقين، عازفاً عن الإطلاق، متواضعاً في الجزم، بليغاً في الإفصاح، ونزيهاً في الكشف عن خبايا الكيمياء الشعرية التي يعتمدها في كتابة قصيدته.