"مضت بعد أن تركت لي وعدها بأنها سوف تعودني يوم الثلاثاء، بعد أربع دمعات، كنت أشرع في عدّها، وأحصي ذراتها... منذ اللحظة التي يغيب فيها ظهرها في الباب المفضي إلى الصنوبر، ومنه إلى الفردوس.. لم يبارحني يونس لحظة... ولم تبارح القلب للحظة أشواق الفردوس وأشواكه، فالشوق شوك، والحنين ينكسر، عندما تتجلى لي الحارة، عن بعدي وبعده عنها، وهي...
قراءة الكل
"مضت بعد أن تركت لي وعدها بأنها سوف تعودني يوم الثلاثاء، بعد أربع دمعات، كنت أشرع في عدّها، وأحصي ذراتها... منذ اللحظة التي يغيب فيها ظهرها في الباب المفضي إلى الصنوبر، ومنه إلى الفردوس.. لم يبارحني يونس لحظة... ولم تبارح القلب للحظة أشواق الفردوس وأشواكه، فالشوق شوك، والحنين ينكسر، عندما تتجلى لي الحارة، عن بعدي وبعده عنها، وهي تزعق بخوائها المفزع، فتبدو بعيدة... بعيدة، مكاناً سرابياً يبتعد خلف أقصى حدود السراب. أحاول أن أعيد صياغة الفردوس مثلما كان، قبل ارتحالي ورحيله عنه، فلا تأتيني سوى ليلى من زرقة وأرجوان، ورجس عظيم، ولا أرى إلا يوماً واحداً من غبار. وأحياناً كان يمضني الشوق إليّ، فأبتعد بعيداً عن العيون. أحمل عكازتي وأهبط في المنحدر الجبلي عند أقصى حدود الصنوبر من الشمال. لم أكن بعد قد أتقنت الحجل فوق المنحدرات والمرتفعات، فكانت العكازة هي رفيقتي الوحيد الذي يساعدني في الهبوط إلى هناك، حيث حظيرة الخنازير التي تبث رائحة أكثر عطناً وحموضة من رائحة تلك البئر الملعونة... وأما عيون الخنازير الضيقة، وعيون العكازة الواسعة، وحدها، كنت أخلع يونس عني، أنضو عرقه من مسامات جلدي، أتعرّى منه، أعيد صياغتي فيّ، اشتقني منه.. من يونس الذي استقر في كل خلايا الجسد والروح. وحدها تلك العيون، كانت تراني عارياً، وتصغي إلى هذيانات لم تكن تفهمها لكنها، رغم ذلك، ظلّت تحفظ سري".عندما تطوف في النفس العذابات، تشرق في الروح إلْهامات وتسمو بها إلى حدود عوالم رائعة، متسربلة بشفافية رائعة، ومسكونة بكائنات رمزية توحي بخيالات جامعة مترعة بأفكار وبصور يلتقطها الكاتب لينسج من جزئياتها روايته "رائحة الصيف" التي يستسيغها القارئ ويمضي في استقراءات مضمونها بلذّة وهو متردد بين الواقع والحلم، وبين الحقيقة والخيال.