القرن الثالث من الألف الثالث يبدو لنا - وليس في الامر نبوءة ولا تنبؤاً- مضاعف السرعة في التغّير اذا ما قارناه، مثلاً، بالقرن الاخير من الألف السابق... علما بأن التسمية الرقمية للقرون تظل نسبية، في انتظار السنة الاخيرة، حين يستجمع المؤرخون حصيلة المئة سنة ويستخلصون منها العلامة الفارقة والسمة المميزة. على قارعة الطريق بين قرنين، ...
قراءة الكل
القرن الثالث من الألف الثالث يبدو لنا - وليس في الامر نبوءة ولا تنبؤاً- مضاعف السرعة في التغّير اذا ما قارناه، مثلاً، بالقرن الاخير من الألف السابق... علما بأن التسمية الرقمية للقرون تظل نسبية، في انتظار السنة الاخيرة، حين يستجمع المؤرخون حصيلة المئة سنة ويستخلصون منها العلامة الفارقة والسمة المميزة. على قارعة الطريق بين قرنين، ماذا نرى، واي مشهد يبدو للمراقب - ودور المؤرخ يظل مؤجلا - مرسوم الاطار، ولو كانت السمات بعد غير مرتسمة؟ العلامة الاولى هي عودة الدين بزخم كان يكون غير منتظر بينما العالم من حولنا يتزايد تفجره بالعلوم المذهلة في كل حقل: التكنولوجيا، الفضاء، الذرة، المعلوماتية... وصولا الى تحويل علوم "جينيات" الانسان الى "بيولوجيات" تخترع، ولا تتورع، اسوار استنساخ يحاول الدين، ومعه الأخلاقيات العلمانية، احتواءها. واذا بالدين "العربي" مسلما ومسيحيا على حد سواء، يتجاوز التدين، المتوقع نتيجة الاحباط بل اليأس، للتقوقع في عصبيات وسلفيات يجن جنونها، فتتوسل العنف وتخطف الثورات من منطقها التاريخي، لتسوقها الى آفاق المستحيل. العلامة الثانية هي تقهقر العالم العربي الى ادنى درجات تنيمة الانسان نتيجة نصف قرن، بل قرن كامل من تغييب الحرية في كل ابعادها، بدءا بحرية المعرفة، بحثا واكتسابا وتأليفا، وصولا الى حرية الاعلام (في شقيها: حرية جمع المعلومات وتداولها، ثم حرية مناقشة المعارف والتعبير عن الرأي في كل حقل، من السياسة الى الدين)، فضلا عن الحريات الديموقراطية وحقوق الانسان والمساواة بين الناس، وبين الرجل والمرأة. العلامة الثالثة هي هدر الثروات التي اكتشفها لنا سواتا، فاذا بنا ننصرف عن توظيفها في التنمية الاقتصادية والانسانية على حد سواء، لننشئ مجتمعات استهلاك يتجاور فيها الفقراء جدا مع الاغنياء الى حد العهر... ونعيش في فرح اقتناء الكماليات والمدنيات الزائفة بقدر يتساوى مع اقتناء اسلحة ثبت انها لا تصلح للانتصار في حرب، بل هي فقط لكسب العمولات. ونتباهى بوجود مدارس فخمة لا تنجب من المثقفين الا قلة والبقية انصاف متعلمين، وفي طبقات، كما نتباهى بالعمارات الشامخة والقصور الخرافية المسيئة الى الذوق والبيئة، وبالمستشفيات التي تكتفي باستنقال المعالجات ولا معاهد بحث توجهها وترقيها... واما الجامعات فمصانع للبطالة ومحطات هجرة للمتفوقين حين يقدرون. العلامة الرابعة تراجع الحركات النهضوية والتحريرية الى حد فقدان الاستقلال الحقيقي (في ظل أنظمة كلها استبدادية، عسكريتارية كانت خاطفة للعقائد، ام اقطاعية وملكية ومقولبة للفكر والتقدم ) الى ان صارت بيننا وبين عودة الاستعمار الى ارضنا محطة واحدة، او نصف محطة علامتها احتشاد الجيوش الاجنبية لا نقاوم وجودها الا بشبه احتجاج لا تأبه له، وقد سبق لها ان تقاضت منا نقدا وعدا اجرة خوضها على جبهاتنا حربا من بعضنا على بعض آخر، ونحن لا نعرف بعد ان لم تكن تلك الحرب بل الحروب مفتعلة مصطنعة نصفق لها عن جهل باصولها وقدراتها ومراميها.