الكتاب طبعة ثالثة.الغنَاء ومَا يقَال فِيهِلقد اختلف العلماء في سماع الغناء وآلات اللهو قديمًا وحديثًا وأكثروا القول فيه بل كتبوا فيه المصنفات، واستقصوا الروايات، ونحن نذكر أقوى ما ورد من الأحاديث في هذا الباب، ثم ملخص اختلاف العلماء وأدلتهم، ثم ما الحق الجدير بالاتباع.أحاديـث الحظـر1- عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو ...
قراءة الكل
الكتاب طبعة ثالثة.الغنَاء ومَا يقَال فِيهِلقد اختلف العلماء في سماع الغناء وآلات اللهو قديمًا وحديثًا وأكثروا القول فيه بل كتبوا فيه المصنفات، واستقصوا الروايات، ونحن نذكر أقوى ما ورد من الأحاديث في هذا الباب، ثم ملخص اختلاف العلماء وأدلتهم، ثم ما الحق الجدير بالاتباع.أحاديـث الحظـر1- عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري أنه سمع النبي ﷺ يقول: «ليكونَنَّ من أمتي قوم يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف». أخرجه البخاري بهذا الشك بصورة التعليق وابن ماجه من طريق ابن محيريز عن أبي مالك بالجزم.2- عن نافع أن ابن عمر سمع صوت زمارة راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع. فأقول: نعم. فيمضي حتى قلت: لا. فرفع يده وعدل راحلته عن الطريق، وقال: رأيت رسول الله ﷺ سمع زمارة راعٍ فصنع مثل هذا. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، قال أبو علي اللؤلؤي: سمعت أبا داود يقول: وهو حديث منكر.3- عن عمران بن حصين أن رسول الله ﷺ قال: «في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف» فقال رجل من المسلمين: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: «إذا ظهرت القِيان والمعازف وشُربت الخمور». رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.4- عن أمامة عن النبي ﷺ قال: «إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات». يعني البرابط والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية. رواه أحمد عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم بن عبد الرحمن. قال البخاري: عبيد الله بن زحر ثقة، وعلي بن يزيد ضعيف. وقال أبو مسهر في عبيد الله بن زحر: إنه صاحب كل معضلة. وقال يحيى بن معين: إنه ضعيف. وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن المديني: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يروي موضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامّات.5- عن ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب. رواه أبو داود مرفوعًا والبيهقي مرفوعًا وموقوفًا. وفي إسناده شيخ لم يسم، وفي بعض طرقه ليث بن أبي سليم وهو متفق على ضعفه كما قال النووي، وقال الغزالي: رَفْعُه لا يصح. ومعناه أن المغني ينافق لينفق. وقد زدنا هذا وما قبله إتمامًا للبحث.وقد رأيت أنه لا يصح من هذه الأحاديث إلا الأول، وستعلم مع ذلك ما قيل في إعلاله، وما رُوي غيره أوهى منه، إلا أثرًا عن ابن مسعود في تفسير اللهو فقد صححه ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي.* * *أحاديـث الإِباحـة1 – عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله ﷺ أيام مِنىً وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله ﷺ؟! فأقبل عليه رسول الله ﷺ وقال: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد» وفي رواية: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا». فلما غفل غمزتهما فخرجتا، تقول: لما غفل أبو بكر. رواه البخاري في سنة العيد، وفي أبواب متفرقة، ومسلم في العيد، والنسائي في عِشْرة النساء، وإنما أنكر أبو بكر لظنه أن النبي ﷺ كان نائمًا لم يسمع.2- عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوِّذ قالت: دخل عليَّ النبي ﷺ غداة بُني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضربْنَ بالدف، يندبن من قتل من آبائي يوم بدر، حتى قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال النبي ﷺ: «لا تقولي هكذا وقولي كما كنت تقولين». رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا النسائي.3- عن محمد بن حاطب قال: قال رسول الله ﷺ: «فصل ما بين الحلال والحرام الدفُّ والصوت في النكاح». رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم.4- عن عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس وإذا جوارٍ يغنين فقلت: أي صاحبي رسول الله ﷺ، أهل بدر يُفعل هذا عندكم؟! فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا، وإن شئت فاذهب، فإنه قد رُخِّص لنا اللهو عند العرس. أخرجه النسائي والحاكم وصححه.5- عن بريدة قال: خرج رسول الله ﷺ في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله صالحًا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى. قال لها: «إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا». فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها ثم قعدت عليه. فقال رسول الله ﷺ: «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسًا وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف». رواه أحمد والترمذي وصححه وابن حبان والبيهقي.* * *خلاف العلماء في مسألة سماعالغناء والمعازف وأدلتهمفي الباب أحاديث أخرى وما أوردناه هو أصح ما ورد فيه مما يحتج به، وأحاديث الحظر التي تقدمت تحظر المعازف وهي آلات اللهو، والدف منها قطعًا، وغناء الِقيان وهن الجواري المغنيات، وقد رأيت في أحاديث الإباحة إباحة العزف بالدف وغناء الجواري وانعقاد نذره، ومما ينبغي الالتفات إليه أن كلام أبي بكر وكلام عامر بن سعد يدلاّن على أن الناس كانوا يتوقعون حظر السماع واللهو لا سيما أصوات النساء، لولا النص الصريح بالرخصة، وتكراره في الأوقات التي جرت عادة الناس بتحري السرور فيها، كالعيد والعرس وقدوم المسافر، فأحاديث الإباحة مرجحة بصحتها، وضعف مقابلها ونكارته، وبكونها على الأصل في الأشياء وهو الإباحة، وبموافقتها ليسر الشريعة وسماحتها وموافقتها للفطرة، وهذا لا ينافي أن الانصراف الزائد إلى اللهو والإسراف فيه ليس من شأن أهل المروءة والدين، ولهذا رأيت كثيرًا من الأئمة العلماء الزهاد قد شدد النكير على أهل اللهو لما كثر وأسرف الناس فيه عندما عظم عمران الأمة واتسعت مذاهب الحضارة فيها، حتى جاء أهل التقليد من المصنفين فرجحوا أقوال الحظر وزادوا عليها في التشديد، حتى حرم بعضهم سماع الغناء مطلقًا، وسماع آلات اللهو جميعها، إلا طبل الحرب ودف العرس، وزعموا أنه دف مخصوص لا يُطرِب، وأنه غير دف أهل الطرب، وهاك أجمع كلام يحكي خلاف علماء الأمة وأدلتهم في هذه المسألة بالاختصار، وهو كلام الشوكاني في نيل الأوطار، قال بعدما أورد ما تقدم من أحاديث الحظر:وقد اختُلِفَ في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها، فذهب الجمهور إلى التحريم مستدلين بما سلف، وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع، وقد حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفـه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأسًا، ويصوغ الألحان لجواريه، ويسمعها منهن على أوتاره، وكان ذلك في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وحكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضًا عن القاضي شريح، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والشعبي.وحكاه صاحب الإِمتاع عن أبي بكر بن العربي، وجزم بالإباحة الأدفوي، هؤلاء جميعًا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة، وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال الأدفوي: إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله، ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه، ونقل التاج الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل المدينة عليه، وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيها بالعبادة والذكر.