إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يَهْدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله[1]. أما بعد:فإنَّ دين الإسلام - الكامل الشامل - جاء بتشريع دقيق وافٍ، شمل كل الأمور التي تحتاجها البشرية في حياتها الدينية والدنيوية، ومن جملة ذلك:تنظيم العلاقات بين الناس، سواء أ...
قراءة الكل
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يَهْدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله[1]. أما بعد:فإنَّ دين الإسلام - الكامل الشامل - جاء بتشريع دقيق وافٍ، شمل كل الأمور التي تحتاجها البشرية في حياتها الدينية والدنيوية، ومن جملة ذلك:تنظيم العلاقات بين الناس، سواء أكانت بين الراعي ورعيَّته، أم بين الوالد وأولاده، أم بين الزوج وزوجته، أم بين الأقارب عامة، أم بين الجيران، أم بين المسلم والمسلم، أم بين المسلم وغير المسلم، أم الدولة بغيرها من الدُّول في حالتَيِ السِّلم والحرب. ووضع لكلِّ ذلك حدودًا وأحكامًا بيِّنة. ولعلَّ من أهم تلك الأحكام "العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين"؛ فإنه بالوقوف عليها ومعرفتها تظهر لنا حقيقة العلاقة تلك، ويَظهر من خلالها مدى سُموِّ هذا الدين، وطريقة معاملته لمخالفيه. ومن هنا جاء اختيار موضوع "الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي"، أقدِّمه للمكتبة الإسلامية ورُوَّادها؛ عسى أن يجد فيه الراغب طَلِبَتَه، وأن يكون نواة لشجرة طيبة مثمرة، تؤتي أكلَها كلَّ حين بإذن الله. ولقد كان وراء اختيار هذا الموضوع جملةُ أسبابٍ، من أبرزِها:1- أنه يلاحظ في هذا العصر شدَّة ضعف المسلمين، وتفرُّقهم شيعًا، وتعدُّد دولهم، أما الكفار فقد قويَتْ شوكتهم، واشتد بأسهم، وتبوؤوا مكان الصدارة في معظم جوانب الحياة الدنيا، الأمر الذي جعل المسلمين يحتاجون إليهم، ويستفيدون منهم، بل ويستعينون بهم في كثير من الأمور، فاستدعى الأمر البيان والتفصيل. 2- أن كثيرًا من الناس يجهلون حقيقة العلاقة مع غير المسلمين، وأسلوب المعاملة معهم وطريقتها. وقد تجد من هؤلاء - بل ومن أهل العلم - مَن يذهب في ذلك مذاهب شاحطة[2] ومتباينة. فمنهم من يقف من الكفار موقفًا سلبيًّا (طابعه العداء والنفور)، فلا يفرق بين حربيٍّ، وذمِّي، ومستأمن. فيتعامل مع الجميع معاملة قاسية شديدة؛ انطلاقًا من فهمه لبعض النصوص، كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [التوبة: 73]، [التحريم: 9]. ومنهم من يقف من الكفار (جميعهم) موقفًا متساهلاً، لينًا هينًا، طابعه المحبة والودُّ والولاء، بحيث لا يكاد يفرِّق بين مسلم وغير مسلم، ولا يميِّز بينهما، ويرى أنَّ على جميع الناس - على اختلاف أديانهم - أن يعيشوا مُتوادِّين متعاونين، وأن يبتعدوا عن كلِّ أسباب الخلاف والنِّزاع فيما بينهم، مع مُحافظة كلٍّ منهم على دينه، ولكن نظام الإسلام في هذا وسطٌ بين الأمرين، يتضح من خلال هذا البحث المبارك - إن شاء الله. 3- ثم إن الموضوع بِكْر، لم يُبحث من قبْلُ فيما أعلم، وفيه من الإبهام والغموض على كثيرٍ من الناس ما يَحتاج إلى الكشف والإيضاح. وإذا كان قد أُلِّف في أحكام أهل الذِّمة ونحوهم، فإنه يختلف عن موضوعنا اختلافًا واضحًا؛ لأنَّه يَبحث في أحكام مُعاملاتهم في العقود الماليَّة والأنكحة، وفي الأطعمة والعقوبات، ونحو ذلك، أما موضوعنا، فهو في مسائلِ وقضايا الاستعانة بِهم فقط. وما من شكٍّ أن هذا الموضوع يحمل صعوباتٍ بالغة، أدركتُها خلال رحلتي معه في أكثرَ مِن أربع سنوات. ومن أبرز هذه الصعوبات:أ- قلة المصادر المتخصِّصة في هذا، حتَّى لا تكاد تجد كتابًا يبحث في باب الاستعانة بالكفار استقلالاً. وإذا وُجد، فهو مختصر جدًّا، لا يَذكر أحكامًا مفصلة.. هذا، إلى أنه يلاحظ أنَّ أكثر هذه المؤلفات - مع قلَّتِها - مجهولةُ المؤلِّف؛ مما يقلِّل من أهميتها وقيمتها. الأمر الذي يضطر الباحِثَ إلى البحث المستقصي الدَّقيق في كتب الفقه، والتفسير، والحديث، والسيرة، والأحكام السُّلطانية، وغيرها في أبواب شتَّى. ب- وفي هذا العصر - الذي تقاربَتْ فيه المسافات بين دُوَل العالَم، وتشابكت فيه المصالِحُ، وتعقَّدت أساليب الحياة وأزمت[3] - جدَّت أمور ومسائِلُ كثيرة، لا حصر لها، لَم تكن ذات بالٍ من قَبل، مثل: الاتِّفاقات التعاونيَّة بين الدُّول في شتَّى ميادين الحياة، ومثل: الأحلاف العسكريَّة، والتمثيل الدبلوماسي الدائم، وتبادل المُجرمين، وغير ذلك. منهج البحث:وقد سِرتُ في بَحثي هذا وفق المنهج التَّالي:1- أنه نظرًا لما يُتَوهَّم من سعة الموضوع وطوله؛ فإنني حصرت بحثي في مجال الاستعانة فقط - وهي طلب العون - وهي في واقع الأمر محدودة، وإن كثرَتْ صورها، وتشعَّبَت أطرافها. وقد أشرت في أحد الفصول إلى الجوانب التي يحصل فيها التعاون المتبادل بين الدَّولة الإسلامية والدُّول الكافرة. ومن هنا؛ فإنني لا أتعرَّض لأحكام غير المسلمين ومعاملاتهم في العقود الماليَّة والأنكحة والأطعمة والعقوبات، ونحو ذلك؛ فإن مثل هذا قد أفاض فيه علماؤنا المتقدِّمون والمتأخرون، ككتاب "أحكام أهل الذمة" لابن القيِّم، و"أحكام الذميين والمستأمنين" للدكتور/ عبدالكريم زيدان. 2- وإذا كانت صور الاستعانة بالكفار لا يمكن حصرها؛ فإنني قصدتُ من هذا البحث تأصيلَه وتقعيده. بحيث أذكر أمَّهات المسائل، ورؤوسها في كل مجال وميدان، دون التعرُّض لأسلوب الاستعانة وطريقتها؛ فإن هذا يتحدَّد حسب مقتضيات الأحوال. 3- أذكر آراء الأئمة الأربعة - أبي حنيفة، ومالكٍ، والشافعيِّ، وأحمد - ومذاهبهم في كل مسألة بحسب الاستطاعة، وقد عرضتُ الخلاف في أغلب الحالات على إحدى طريقتَيْن:الأولى: ذِكْر الرَّأي ومن قال به بإجمال، ثم الأدلة ومناقشتها، ثم الترجيح. وذلك فيما إذا كان الخلاف مختصَرًا. الثانية: ذِكْر الآراء مرتَّبةً على النَّحو الآتي:1- مذهب الحنفية.2- المالكية.3- الشافعية.4- الحنابلة. ثم أذكر أدلَّة كلٍّ، ثم أناقشها، وأرجِّح ما أراه راجحًا، وهذا إذا كان الخلاف مطوَّلاً، وقد أذكر بعض من قال بالرأي من الصحابة أو التابعين. وقد سِرْت على هذا في مسائل الأبواب الرئيسة، أمَّا المسائل في الباب التمهيديِّ، فإنني أذهب فيها إلى الإيجاز، إلا ما استدعى الأمر التفصيل؛ وذلك لأن هذا الباب مدخل إلى الموضوع من جهة، ومن جهة أخرى فإن مسائل هذا الباب كثيرة ومطوَّلة. 4- وقد أذكر أحيانًا رأي الظاهرية.كما أنني قد أستأنس عند الترجيح بذكر بعض آراء المحقِّقين من العلماء، مثل: النووي، وابن تيميَّة، وابن القيم، وابن حجر، والشوكاني، ونحوهم - رحمهم الله. 5- وخرَّجت الأحاديث كلَّها مع بيان درجتِها في أغلب الأحوال، اللهم إلاَّ ما كان في الصحيحين، فأكتفي بتخريجه؛ لأن الأمَّة أجمعت - في الجملة - على قبول ما فيهما. فإن كان الحديث في أحدهما، فإنَّني أخرجه في غالب الأحوال من بعض كتب الحديث التي اتَّفقَت مع كتاب الصحيح على تخريجه؛ زيادةً في التحقيق، ويلاحظ أنني غالبًا لا أورد من الحديث إلاَّ الشاهد منه فقط؛ من أجل الاختصار. 6- أكتفي - غالبًا - بذكر مرجع واحد من مراجع الفقه عند كل مذهب من المذاهب الأربعة؛ لأنَّ المهم توثيق الرأي، والتحقُّق من صحة نسبته إلى قائله، وهذا يحصل بكتاب واحد. 7- لم أعتمد على الكتب المعاصرة إلاَّ عند عدم غيرها في جملة البحث. 8- ترجمت لمعظم أعلام الأشخاص - غير المشاهير - الوارد ذكْرُهم في صلب البحث. خطة البحث:أمَّا الخُطَّة التي سرت عليها، فإنَّها تحتوي على ثلاثة أبواب؛ أولها باب تمهيدي، ثم خاتمة. واشتمل كلُّ باب على فصول، وكلُّ فصل على مباحث. وقد يكون تحتَ المبحث مطالِبُ، كما قد يتضمَّن المطلب فروعًا، وذلك كما يلي:الباب الأول التمهيدي: في علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم.وفيه فصول:الأول: في أسُسٍ عامَّة في علاقة المسلمين بغيرهم.الثاني: في الأصل في العلاقة بالأمم، أهو السِّلم، أم الحرب؟الثالث: في علاقة الأمة الإسلامية بالحربيِّين والذِّميين والمستأمنين، وأهل العهد، والصلح والمحايدين. الباب الثاني: الاستعانة بغير المسلمين.وفيه فصول:الأول: دار الإسلام ودار الحرب.الثاني: التجاء المسلم إلى الكفار واستعانته بهم.الثالث: استعانة الدولة المسلمة بالكفار غير الذمِّيين.الرابع: الاستعانة بأهل الذمة. الباب الثالث: في أحكام عامة.وفيه فصول:الأول: الاستعانة بأهل الأهواء والبِدَع.الثاني: وضع غير المسلمين في جزيرة العرب.الثالث: التساهل مع غير المسلمين وآثاره. ولا يفوتني أن أقدِّم شكري لكلِّ من قدَّم لي إعانة أو توجيهًا من أهل العلم، وأرجو لهم المثوبة من الله، وأخصُّ هنا فضيلة الأستاذ الدكتور عبدالعال أحمد عطوة - الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء سابقًا - الذي كان له فضْلُ التوجيه والإشراف على هذا البحث، وأسال الله تعالى أن أكون قد وُفِّقت في عملي هذا، وأرجو أن يكون خالصًا لوجهه الجليل.