"إنَّ أحسن ما يُوشَّح به صدر الكلام، وأجمل ما يُفصَّل به عقد النظام، حمد اللَّه ذِي الجلال والإكرام، والإفْضال والإنعام، ثم الصلاة على خيرِ الأنام[1]. أما بعد:فإنَّ التدافع بين الأُمم سُنة ماضية، وبها تتحقَّق حِكمة مِن حكم اللَّه الباهرة؛ قال سبحانه:﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَل...
قراءة الكل
"إنَّ أحسن ما يُوشَّح به صدر الكلام، وأجمل ما يُفصَّل به عقد النظام، حمد اللَّه ذِي الجلال والإكرام، والإفْضال والإنعام، ثم الصلاة على خيرِ الأنام[1]. أما بعد:فإنَّ التدافع بين الأُمم سُنة ماضية، وبها تتحقَّق حِكمة مِن حكم اللَّه الباهرة؛ قال سبحانه:﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251]. والاختلاف سُنَّة طبيعيَّة بيْن البشَر، سواء مِن حيث أشكالُهم: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22]، أو مِن حيثُ أعمالُهم وتصرُّفاتهم: ﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾ [الليل: 4]، أو مِن حيثُ أفكارُهم ومعتقداتُهم: ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ﴾ [يونس: 19]، ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود: 118 - 119]. فتِلك الآياتُ الكريمة تُقرِّر حقيقتَين:الأولى: أنَّ الاختلاف بيْن البشَر طبيعةٌ اجتماعيَّة وكونيَّة.الثانية: وجود التنافُس والتدافُع بينهم. ولولا وجودُ هاتين الصِّفتين في البشَر لأصبحوا نسخةً واحدةً على منهج واحد، وملَّة واحدة، وهذا خلاف مقتضى الحِكمة؛ ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [المائدة: 48]، ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [السجدة: 13]. وهذه التقريراتُ لا بدَّ أن تُثير سؤالاً مهمًّا، مفاده:إذا كان الاختلافُ والتدافُع سُنَّة، فكيف تكون طبيعةُ العلاقة بيْن البشَر، أو على وجه التحديد، بيْن الأُمم والشُّعوب؟تلك هي القضيةُ في هذا المبحَث ومشكلته. ومنها تتفرَّع تساؤلات كثيرة، منها على سبيلِ المثال:1- ما طبيعةُ العلاقة بيْن الأديان؟2- ما طبيعةُ العلاقة بيْن المسلمين وغيرهم؟3- وهل الأصْل في العَلاقة السِّلْْم أو الحرْب؟4- ما مدَى حدود مسؤولية المسلمين في عولَمةِ الإسلام بحسبانه دِينًا عالميًّا؟5- هل الجهاد قاعدةٌ أو استثناء؟6- وهل الجهاد دِفاعٌ أو هجوم؟7- هل الغَرْب يُريد الحوارَ والسلام فعلاً؟8- ما النظريات المطروحَة في قضيةِ العَلاقة بيْن الأمم والشُّعوب؟9- ما الرُّؤى والتوقُّعات المستقبليَّة لعلاقة المسلمين بالغرْب؟ تلك مِن أبرز التساؤلات التي تحاول هذه الدراسةُ أن تجيبَ عنها، ولو إجمالاً، وهي وإنْ كانت تساؤلات شتَّى، بَيْدَ أنه يجمعها عقدٌ واحد هو (العلاقة الأُممية). إنَّها قضايا جِدُّ كبيرة، تتطلَّب جهودًا علميَّة وذِهنيَّة ضخْمة ومضاعَفة؛ كيما نصلَ إلى شيءٍ مِن النتائج المفيدة، ونحاول استخدامَ عددٍ مِن مناهج البحْث المتعارَف عليها لتساعدَنا على الوصول إلى الهدَف، أو على الأقل الاقتراب منه، ومِن المناهج المناسِبة هنا: منهج التحليل، والنقْد، والمقارنة، والاستنباط، والاسترداد. وقد راعيتُ في أسلوب الخطاب أن يكونَ مناسبًا لفئتين مِن القرَّاء:• الفئة المثقَّفة من المسلمين، ولا سيَّما مِن أصحاب الثقافات غيرِ الشرعية.• الفِئة المثقَّفة مِن غير المسلمين، سواء أكان لديهم ثقافةٌ ما عنِ الإسلام، أم لم يكونوا كذلك. وذلك راجعٌ لسببين:الأول: أنَّ مِثل هؤلاء يكثُر خوضُهم وحديثهم في مجالِ العلاقات الدوليَّة (الثقافيَّة والاجتماعيَّة).الثاني: أنَّ كثيرًا قد تسنَّم مراكزَ التوجيه (الثقافية والاجتماعية) في مجتمعاتهم. أمَّا خريطة البحث وتقسيماته فتبدو معالِمها بالآتي:1- تمهيد:في تحديد مصطلحات البحْث الكُبرى:أ- الإسلام.ب- الحوار.جـ- الصِّراع.د- الحضارات. 2- الفصل الأول:الحضارات المعاصرة، وفيه مبحثان:المبحث الأول: أنواع الحضارات.المبحث الثاني: الحضارة الغربيَّة. 3- الفصل الثاني:الحوار معَ الحضارات، وفيه أربعة مباحث:المبحث الأول: أنواع الحِوار.المبحث الثاني: قواعِد الحوار وأُسسه.المبحث الثالث: أسلوب الحوار.المبحث الرابع: أهدافُ الحوار. 4- الفصل الثالث:طبيعةُ العَلاقة بيْن الحضارة الإسلاميَّة والحضارات الأُخرى.وفيه مبحثان:المبحث الأوَّل: الجانب النَّظَري.المبحث الثاني: الجانِب العَملي. 5- الفصل الرابع:مُجْمَل العلاقة بيْن الحضارات عندَ الكتاب والمؤلِّفين.وفيه ثلاثة مباحِث:المبحث الأوَّل: عندَ علماء المسلمين المتقدِّمين.المبحث الثاني: عند الكتَّاب المعاصرين.المبحث الثالث: عند غيرِ المسلمين. 6- الفصل الخامس:العَلاقة بالغرْب: الواقِع والمأمول.وفيه مبحثان:المبحث الأوَّل: واقِع العَلاقة بالغرْب.المبحَث الثاني: مأمول العَلاقة بالغرب. 7- الفصل السادس:ملحوظاتٌ ومحاذيرُ في طريقِ العَلاقة بالغرْب، وفيه مبحثان:المبحث الأول: الملحوظات.المبحث الثاني: المحاذير. 8- خاتمة.بالإضافةِ إلى بعضِ الملاحق، المتمثِّلة ببعض الوثائق القديمة المتَّصلة بالعلائق الدوليَّة، وغير خاف على القارئ الكريم ما يَكتنف الموضوع مِن طول وعُمق وغموض، ولعلَّ مثل ذلك يكون سائقًا للباحِث لا عائقًا، ومسهمًا في تأسيسِ القواعد الصُّلْبة لمثل هذه الموضوع الفضفاض. واللهَ أسأل أن يُلهمني السَّداد، وأن يجعلَ في هذه الورقات الإفادةَ والمُتعة، إنَّ ربي لسميعُ الدعاء. الخاتمةربَّما يفضِّل أكثرُ الباحثين أن يجعلوا خاتمةً يستخلصون بها أهمَّ أفكار بحوثهم، ولكنني أفضِّل هنا أن أختمَ بملحوظة قد تكون توكيدًا لما عُولِج في هذا البحث، ثم أذكُر بعضَ التوصيات التي أراها مناسبة. أمَّا الملحوظة هنا فليس المقصود منها ما يُؤاخذ عليه بالضرورة، ولكنَّها أمر يسترعي الانتباه، وهي: أنَّ أكثرَ مَن يدعو إلى الحوار في ظلِّ هذه الظروف الراهنة الصَّعْبة التي بدَا فيها الغرب متأزِّمًا، منتفخ الأوداج، مكشرًا عن الناب، كما يبدو المسلمون في موقِف المتَّهم الذي لا يستطيع الدِّفاعَ عن نفسه، فأكثر مَن يدعو للحوار هم المسلمون. ولعلَّ ذلك يرجِع إلى أنَّ الغرب شعَر بأنَّه ليس بحاجة إلى هذا الأسلوب (السِّلمي)، في وقت أعلن فيه الحربَ على ما سمَّاه بـ(الإرهاب)، أما المسلمون فقد رأوا - ممثلين بحكوماتهم وببعضِ دُعاة الفِكر - أنهم مستهدَفون، فأصبحوا يُنادون – وبإلحاح - إلى الحوارِ والتفاهم وعدم اللجوءِ إلى القوَّة؛ حرصًا على توطيد السِّلم، وتحاشي مخاطِر الحرْب. ومِن هذه الملحوظة أنطلِق إلى تسجيلِ بعض التوصيات:أولاها: أنَّ هذا الواقع يُنبِّه المسلمين إلى أهمية التعاون بينهم، وإعادة النَّظَر في أوضاعهم الداخلية؛ لإصلاحِ ما يُمكن إصلاحُه، وتدارك ما يُمكن تداركُه، في كلِّ شأن مِن الشؤون، ولا سيَّما في العلائق الدوليَّة، التي تتطلَّب صياغةً جديدةً وَفق معايير الشريعة الإسلامية، وما تُمليه الضرورات. الثانية: أنَّ العلائِق الدوليَّة (الأممية) تختلف عنِ العلائق الفرديَّة، فهذه الأخيرة يمكن أن يَجْري فيها التفاهُم وتقريب وجهات النظَر إلى حدٍّ كبير، كما هو واضِحٌ مِن خلال التجرِبة. أمَّا العلائق الدوليَّة أو العلائق بيْن الأمم، فأسلوب التفاهُم بينها في غايةِ الصعوبة والتعقيد؛ نظرًا لشدَّة المنافَسة ولعُمق الاختلاف في اللُّغات والمبادِئ والعادات والمصالِح والبيئات... إلخ. ومِن هنا يَنبغي على الأمَّة المسلِمة أن تُدرك هذه الحقيقةَ، وأن تستبعد (إمكانية السلام الشامِل والدائم)، وعليها بالتالي أن تُهيِّئ نفسَها لتحمُّل الأزمات والمفاجآت. وممَّا يدْعو إلى التذكير بهذه الحقيقة: ما يُلحظ مِن كثيرٍ مِن المسلمين، من منح الثِّقة المطلقة بالغرْب، وإحسان الظنِّ بهم إلى درجة قُصوى، تجعلهم يندهشون بشدَّة حينما يرون منه موقفًا سلبيًّا نحو المسلمين، ولا أدري ما مصدرُ هذه الدهشة؟ أهو أنَّ الغرب في الأصْل صديقٌ حميم، ووفيٌّ لا يغدر؟ أم لأنَّه قد بلَغ مِن التحضُّر والتمدُّن ما يجعله يَنأى بنفسه عن سفاسف الأمور، وعن تصرُّفات بعضِ المسلمين؟ أم يكون ذلك لأسبابٍ أخرى؟! الثالثة: أنَّ المسلمين وهم يدْعون إلى الحوار مع الحضارات الأخرى، وبخاصَّة (الحضارة الغربية)، إنَّهم مُطالَبون بأن يفتحوا بابَ الحوار مع أنفسهم أولاً؛ نظرًا لمسيسِ حاجاتهم إليه، فهُم ما زالوا أشتاتًا في فِكرهم، وأهدافهم، ومصالِحهم العامَّة المشترَكة.إنَّ مظاهر الفُرقة متجسِّدة بكلِّ معانيها في جُلِّ مظاهر الحياة: السياسيَّة، والفكريَّة، والتربويَّة، والدعويَّة، والاقتصاديَّة... إلخ. ولا شكَّ أنَّ (أهل الحَل والعَقد) في كلِّ بلد هم الذين يتحمَّلون مسؤوليةَ هذه الفرقة والتشرذُم، وأنَّ عليهم أن يتَّقوا الله تعالى في أُمَّتهم، فيبذلوا جهدَهم في إخراجهم من هذه المآزق الضيِّقة إلى سَعة (الصلاح والحق، والخير والهدى).والله وليُّ التوفيق.