ظهر القانون بصيغته الحالية مع ظهور الدولة الحديثة، فالتلازم عضوي بينهما، ولا يمكن للدولة أن تمارس وظائفها وتحقق أهدافها دون وجود منظومة من التشريعات وعلى رأسها الدستور، ولذلك وصفت الدولة الحديثة بالدولة القانونية أو دولة القانون، وتعني وجود دستور ينظم سلطاتها الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ووجود فصل نسبي بين هذه السلطات...
قراءة الكل
ظهر القانون بصيغته الحالية مع ظهور الدولة الحديثة، فالتلازم عضوي بينهما، ولا يمكن للدولة أن تمارس وظائفها وتحقق أهدافها دون وجود منظومة من التشريعات وعلى رأسها الدستور، ولذلك وصفت الدولة الحديثة بالدولة القانونية أو دولة القانون، وتعني وجود دستور ينظم سلطاتها الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، ووجود فصل نسبي بين هذه السلطات، إذ إن الفصل المطلق بينها مستحيل عملاً، أما الفصل النسبي فيقتضي التعاون بين هذه السلطات الثلاث، كما يقتضي أن تراقب كل سلطة السلطة الأخرى، وتعني الدولة القانونية أيضاً احترامها لمبادئ حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وأن تتداول السلطة بموجب انتخابات تشريعية حرة، وأن يتوافر الاستقلال والحياد للسلطة القضائية، فإذا لم يكن الأمن مستتباً بالدولة، ولم يكن القانون سائداً فيها ومحترماً من قبل الحكام والمحكومين على حد سواء وصفت هذه الدولة بالدولة الفاشلة. والسلطة الإدارية المتفرعة عن السلطة التنفيذية هي أكبر السلطات في الدولة عدداً ومهاماً، ولذلك اقتضى الأمر سن قواعد قانونية لتنظيم نشاطها تنظيماً واضحاً وتحقيق أهدافها بسلاسة، وهذه القواعد هي قواعد القانون الإداري الذي يضبط سير مرافق الدولة العامة سواء بقرارات إدارية أو بعقود إدارية، وكذلك أنشطتها الضبطية. وأصبح الفرد في الوقت الحاضر يخضع للسلطة الإدارية منذ ولادته حيث يستخرج أبواه شهادة ميلاده، وتعامله يستمر طيلة حياته مع إدارات الدولة حسب احتياجاته حتى وفاته إذ يتعين استخراج شهادة وفاته، فالسلطة الإدارية تنظم حياة الفرد والجماعة في مختلف شؤونهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لذلك فإن دراسة القانون الإداري تعطي للقارئ فكرة واضحة عن سياسات الدولة ووظائفها وقراراتها، ولذلك فإن دارس القانون يمتلك ثقافة قانونية تؤهله لمعرفة أسباب ونتائج الكثير من المشكلات أو السياسات أو القرارات سواء أكانت عامة أم خاصة، ومن هنا تظهر جدوى دراسة القانون الإداري والتعمق به وبخاصة للفرد الذي يهتم بتنظيم مهنته أو حرفته أو تخصصه طبقاً لمبادئ القوانين النافذة في الدولة. ويفرغ نشاط السلطة الإدارية في أسلوبين متميزين، هما المرفق العام، وهو الأسلوب التقليدي في أداء الخدمات العامة، أما الأسلوب الإداري الثاني فيتمثل بالضبط الإداري، وهو الأسلوب الذي يهدف إلى الحفاظ على النظام العام في الدولة. ومن امتيازات السلطة الإدارية: التنفيذ المباشر، فهي تقتص حقوقها بموجب هذه الوسيلة التي منحها لها المشرع، فلا تلجأ إلى القضاء وإنما تنفذ قراراتها جبراً، كما أنها تحصل على ديونها بالتنفيذ المباشر، يضاف إلى ما تقدم أن من امتيازات الإدارة: نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة مقابل تعويض مالي عادل، كما تملك الإدارة سلطة تقديرية واسعة في إطار الصالح العام. وأبادر إلى القول إن هذه الموضوعات يجري تناولها في نطاق أسسها العامة، أما الاختلافات الفقهية فلم أتطرق إليها إلا قليلاً، كي لا أثقل على القارئ أو الدارس القانوني، فهذا المنهج في تناول هذه الموضوعات يعطي فكرة عامة عنها لكي يحببها لمن يقرؤها، ومن ثم يستطيع التعمق بها في كتب الفقه الإداري العربية. وتستخدم السلطة الإدارية وسيلتين كبريين، الأولى بشرية تتمثل في الموظفين العسكريين أو الموظفين المدنيين في الدولة، والثانية مادية، وهي أموال الدولة، سواء أكانت أموالاً عامة، أم أموالاً خاصة مملوكة لها. كما تستخدم الإدارة في مباشرة سلطتها أداتين جوهريتين، هما القرار الإداري، والعقد الإداري، الأول تباشر فيه سلطاتها بإرادتها المنفردة. والثانية تلجأ إلى الاتفاق مع الأفراد بموجب شروط إدارية متفق عليها بين الطرفين. من ذلك يتبين لنا أن السلطة الإدارية تملك امتيازات تنفرد بها وذلك لمباشرة أعمالها وتحقيق أهدافها، فهي تكون في هذه الحالة سلطة عامة تملك وسائل القانون العام وخصائصه، إذ تمثل الكيان الهيكلي للدولة من ناحية التنظيم الذي يخضع للقوانين والأنظمة واللوائح، فلا يمكن للدولة أن تؤدي وظائفها إلا بواسطة سلطة إدارية تملك قدرات منحها له القانون وذلك لأنها تمثل الصالح العام، فدائماً كفة الإدارة تعلو على كفة الأفراد لأنها تمثل صالح الدولة والمجتمع، بينما الفرد لا يمثل إلا نفسه أو جماعته المحدودين ويكون بهذه المثابة ممثلاً للصالح الخاص. والقضاء الإداري يعمل على الموازنة بين حقوق وامتيازات السلطة الإدارية وبين حقوق وحريات الأفراد. فلا تكون كفة الإدارة أرجح من كفة الأفراد إذا كانت متعسفة أو متنكبة عن القانون، أما إذا كان الأفراد يتمتعون بحقوق شرعية فلا يمكن للجهة الإدارية الاعتداء على هذه الحقوق وهذا ما يضمن ذلك القضاء الإداري الذي يحمي الإدارة من أضرار الأفراد، كما يحمي هؤلاء من أضرار الإدارة. إذ يوازن بين الصالح العام الذي له الأولوية دائماً وبين صالح الأفراد بشرط أن يكون مشروعاً. وجدير بالذكر إن القانون الإداري يعد من أهم فروع القانون العام، وذلك لأنه القانون الذي ينظم نشاط إدارات الدولة بموجب القواعد التي ابتكرها أولاً مجلس الدولة الفرنسي، وفقه القانون العام الفرنسي، فقد ابتكرا أهم نظريات ومبادئ القانون الإداري بشكله المعاصر، إذ إن الإدارة لا يمكن أن تخضع لقواعد القانون المدني الذي تحكمه قاعدة "العقد شريعة المتعاقدين" فهذا القانون ينظر للأفراد على أساس المساواة التامة بينهم، بينما لا يمكن إجراء المساواة بين الأفراد وبين الجهة الإدارية، ومن ثم فهذه الجهة احتاجت إلى قواعد قانونية تنبثق من طبيعة الإدارة وخصائصها، وهذا ما قام به القضاء والفقه الإداريان في فرنسا، وهي تجربة رائدة نشأت في القرن الثامن عشر إلا أنها امتدت في الوقت الحاضر الآن إلى عموم أنظمة القضاء في دول العالم. كل هذه المواضيع ومتعلقاتها، ستجدونها في هذا الكتاب الذي نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق فيه، وبه الاستعانة وعليه التوكل و إليه المصير.