أوربا العصور الوسطى "الجزء الأول" التاريخ السياسي

لابد لنا- لكى نعى تاريخ أوربا وحضارتها فى العصور الوسطى وعيا صادقا- من أن نحرر عقولنا تمام من نظرتنا الحديثة الى الحياة, ونضع دائما نصب أعيننا حقيقة هامة هى أن أهالى العصور الوسطى نظروا الى الحياة ومشاكلها الأساسية من زاوية تختلف كلية عن الزاوية التى ننظر منها نحن الى الحياة ومشاكلها. فاذا استطعنا أن ننظر الى العصور الوسطى هذه النظرة الواقعية, فاننا سنرى تلك العصور على حقيقتها, وسندرك عندئذ أنها ليست "مظلمة" ومليئة بالعنف والقلاقل وسفك الدماء, كما صورها الانسانيون من رجال النهضة الايطالية- وبخاصة بترارك- وهم الذين فتنتهم الحضارة الكلاسيكية فأجحفوا بحق العصور الوسطى ونسوا أن تلك العصور اهتمت بابتكار حضارة جديدة أكثر من اهتمامها بعبادة الحضارة القديمة وتقديسها. وسيتضح لقارئ هذا الكتاب أن أوربا العصور الوسطى لم تعدم ظهور مفكرين أفذاذ أسهموا فى بناء الحضارة البشرية وقدموا خلاصة فكرهم لتستفيد منها العصور الحديثة. وحسبنا ما أسهمت به أوربا فى العصور الوسطى من قوانين ونظم حكومية واجتماعية مبتكرة, فضلا عما أبدعته من طرز فنية وألحان موسيقية ونظم تعليمية واقتصادية ودينية. وقد حاولت أن يأتى هذا الكتاب معبرا عن كافة التطورات السياسية والحضارية التى مرت بها أوربا بين القرنين الرابع والخامس عشر, فعالجت- فى الجزء الأول هذا- تاريخ أوربا السياسى فى تلك الفترة مبتدئا بالكلام عن الامبراطورية الرومانية فى عصرها الأخير.