إن صقلية البحرية، القريبة من جنوبي إيطاليا، المتصلة مع بلاد الإسلام بصلات ثقافية واجتماعية، قد أثرت هذه النواحي منها في الأدب تأثيراً واضحاً. وخضوعاً لهذه المظاهر وبحكم هذا الموقع كانت صقلية متأثرة مؤثرة. كانت تستقبل المؤثرات الخارجية المهاجرة إليها مع الكتب والمهاجرين على اختلاف مهنهم، وظهر هذا التأثر في فنها، حتى لم يعثر دارسو...
قراءة الكل
إن صقلية البحرية، القريبة من جنوبي إيطاليا، المتصلة مع بلاد الإسلام بصلات ثقافية واجتماعية، قد أثرت هذه النواحي منها في الأدب تأثيراً واضحاً. وخضوعاً لهذه المظاهر وبحكم هذا الموقع كانت صقلية متأثرة مؤثرة. كانت تستقبل المؤثرات الخارجية المهاجرة إليها مع الكتب والمهاجرين على اختلاف مهنهم، وظهر هذا التأثر في فنها، حتى لم يعثر دارسو الفن في صقلية الإسلامية على ما يميزها فيه عن سائر أقطار الإسلام، وظهر كذلك في شعرها وخاصة في صورته التقليدية، كانت متأثرة حين تعتبرها جزءاً من بلاد الإسلام، وكانت مؤثرة حين تعتبرها جزءاً من ذلك العالم متفوقاً على ما حوله في الحضارة، حتى كانت حضارتها مما تقتبس، وكان مبلغ الجودة في الأشياء عند بعض العارفين بالحضارة الإسلامية أنه شيء يعجب اليونان والمسلمين، وهذه الحضارة هي التي أحبها النورمان وشجعوها وجاء من بعدهم فردريك الثاني وابنه منفريد وسارا على منوالهم، وقد كان فردريك شخصية ذات جوانب متعددة فهو شاعر في الفلسفة وتربية الحيوانات والتريض والصيد، وهو مشرّع مستنير يضطهد المارقين، ويصادق اليهود والمسلمين، وقد كانت الثقافة الإسلامية ذات أثر فعّال في حياته وتتحدث المصادر العربية أن الذي رباه وهو صغير قاضي صقلية وتصفه هذه المصادر بأنه كان فاضلاً محباً للحكمة والمنطق والطب.وفي بلاط ملوك النورمان، وفي بلاط فردريك الثاني وابنه منفريد كان الشعراء المسلمون ينشدون قصائدهم إلى جانب شعراء اليونان واللاتنيين. في هذا الإطار دراسات الدكتور إحسان عباس في تاريخ وأدب العرب في صقلية. كان هدفه بالدرجة الأولى أن تكون دراسته تلك تأريخاً لحياة الشعر العربي في صقلية، لكن ذلك استدعى منه التعمق في فهم تأريخ صقلية من نواحيه السياسية والاجتماعية والثقافية. فكان منه أن قدم البحث في هذه الجوانب على البحث في الشعر، متعمداً الاستقصاء والاستكثار من الحقائق، بانياً الموضوع بالتدرج دون تحليل كثير أو مقارنات ومقايسات. إذ لا بد في البدء من تكوين صورة وافية لصقلية الإسلامية في ناحيتي التاريخ والأدب قبل القيام بالقياس والمقارنة والتحليل.وقد جعل الباحث دراسته هذه في ثلاثة كتب أي ثلاثة أقسام، خصص الأول منها لتاريخ صقلية في العصر الإسلامي، والثاني لتاريخ المسلمين فيها تحت حكم النورمان، لأن الجماعة الإسلامية في تلك الجزيرة شهدت عصرين بينهما جوانب من التفاوت. وفي أحدهما تم تعريف السيادة الذاتية، وفي الثاني تعريف الخضوع للحاكم الغريب. أما الكتاب الثالث ففيه تحت دراسة الشعر في هذين العصرين وبيان المؤثرات التي عملت في تكوين الشعر الصقلي وما تركته من مظاهر القوة والضعف، كما تم توضيح موقف صقلية في طبيعة موقعها بين التأثر والتأثير. وفي طبيعة النفسانيات التي أنشأت ذلك الشعر، وفيما تركته الفتنة والفتح النورماني من آثار فيه، مع الحديث عن الشعر العربي في ظل السيادة النورمانية، يختتم هذا القسم أو هذا الكتاب بفصل عن العلاقة بين الشعر والشخصية الصقلية عامة. ويمكن القول بأن الدكتور عباس قد أضاف بدراسته هذه شيئاً إلى ما تقدمها من دراسات في تاريخ العرب في صقلية، وخاصة في النواحي الثقافية والأدبية، وذلك لما توفر للباحث من المصادر المخطوطة ما كان مجهولاً، فلأول مرة يستفاد من مختصر الدرة، وتثقيف اللسان، وتهذيب المدونة أو مسائل عبد الحق الصقلي وترسل ابن تلاقس، والزهر الباسم ومعجم السلفي وكتاب المحمدين للقفطي وغيرها.